سجناء بلا خطيئة!

TT

يقول بورخيس: «كل شخص شخصان»، والحقيقة غير ذلك، ففي دواخل كل واحد منّا عشرات بل مئات الأشخاص، في دواخلنا المغامر والحذر، العاقل والبوهيمي، الحكيم والعبثي، العقلاني والعاطفي، الزاهد وعاشق الدنيا، العفيف والشهواني، الساذج والناضج، الاجتماعي والانطوائي، وغير ذلك من الصفات التي تمثل كل منها شخصا بذاته في لحظة معينة. هؤلاء الشخوص الذين يزدحم بهم المسرح الداخلي للإنسان، هم الذين جعلوا مسألة تصنيف الإنسان عملية بالغة التعقيد.

وتكمن معاناة الإنسان حينما يضع نفسه أو يضعه الناس في قالب اجتماعي معين، كأن تسجن نفسك أو يسجنك الناس في قالب الشخصية الوقورة الرزينة، حينها لا يكون في مقدورك أن تغني ـ لو رغبت ـ إلا في الحمام، وبصوت خافت كيلا يسمعك الجيران، وإذا سجنك الناس أو سجنت نفسك في صورة الزاهد، فكيف سيكون حالك إن اضطررت إلى الوقوف في طابور أمام أحد البنوك، تزاحم بالمناكب والأيدي والأقدام كي تكتتب في أسهم شركة ربوية، حينها يبدو الإنسان خارج الصورة المرسومة، وهنا تكمن المعاناة.

والخوف من الناس ـ كما يقول الأديب التليسي ـ هو الشبح الذي يقتل استجابتنا لنداء الحياة، فإن تمرد أحدنا على سجنه، وفر خارج الصورة رماه الناس بشتى النعوت من الجنون إلى الغرابة، وإن استسلم للحياة داخل القالب أو الصورة التي رسمها الناس له فذلك هو العذاب الأليم.

وأكثر الناس وقوعا في فخ القوالب الاجتماعية النمطية هم المشاهير، وقد شاهدت ذات مرة مجموعة من هؤلاء، هربوا من عيون الناس إلى إحدى الجزر النائية؛ ليعشوا أياما بلا قيود، ولم يضايقهم في كل تلك الجزيرة بطولها وعرضها سوى اكتشافهم لوجودي، وعبثا حاولت أن أقنعهم بأنني أرتدي هنا ثياب السائح، وليس الصحافي، وأن للجزر النائية استثناءاتها، ويجوز لهم فيها ما لا يجوز لهم في غيرها، فكنت ألمحهم من بعيد يتقافزون كطفل شقي، فإذا ما اكتشفوا وجودي بقربهم أسدلوا على وجوههم قناعاتها المزيفة، وهم يتصنعون وقارا هشا سرعان ما يضيقون به وبي، ويتمرد في دواخلهم الولد الشقي على سجنه فيستجيبون لنداء الحياة.

والخلاصة: تمرد على سجنك، ولا تدع الآخرين يسرقونك من ذاتك، فالشقاء أن تعيش وفق «ما يطلبه المستمعون».

[email protected]