دور قيم الكفاح في ازدهار الأمم وانحطاطها

TT

في مقال بعنوان «الحرب الثقافية القادمة» كتب دافيد بروكس في جريدة «النيويورك تايمز» 30/9/ 2009، محلّلا أسباب الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة والتغيير الخطير الذي طرأ على القيم المالية هناك، معتمدا نظرية المؤرخين التي تؤكد على أن الدول العظمى تتسم في البداية بالحيوية والكفاح، وهذه الحيوية والكفاح ينتجان الثروة والقوة. وتنتج هذه الثروة والقوة الازدهار والرفاهية. ويقود هذا الازدهار والرفاهية المجتمع إلى تقهقر القيم وانتشار الفساد، وبالتالي تتدهور تلك الدول.

ويستعرض بروكس وفق هذه النظرية كيف بدأ المهاجرون الجدد بالعمل الشاق كي ينجح أولادهم مع تميزهم بقدر كبير من الالتزام والتقشف. ويتابع بروكس تحليله ((خلال السنوات القليلة الماضية انحسرت القيم المالية الأميركية في الوقت الذي كان المجتمع يخوض حربا ثقافية حول الصلاة في المدارس، وحول نظرية تطور الإنسان. كان المجتمع يناقش الجنس، وفصل الكنيسة عن الدولة متناسين تلاشي القيم الاقتصادية التي كانت تنزلق من تحت أقدامهم)).

وتوصل بروكس إلى الاستنتاج بأن أهم ما يجب على الولايات المتحدة أن تفعله هو «إعادة إحياء قيمها الاقتصادية من ضبط النفس، والابتعاد عن البذخ لاستعادة قيمها المالية وكي تعود بلدا منتجا للثروة مرة أخرى».

ما لفت نظري في هذا التحليل هو أنه أعاد الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الولايات المتحدة، وكثير من دول العالم، إلى تراجع وتلاشي القيم التي كانت أساسا في تعاظم قوة ومنعة هذه الدول. وما لفت نظري هو التأكيد على أن ثقافة المجتمع تتغير عبر السنين فتخطئ البلدان أحيانا في تحديد ومعرفة أولوياتها بدقة. وفي الوقت الذي كنت أقرأ هذا التحليل كنت أحاول أن أنتج في ذهني تحليلا مماثلا له حول ما حدث لأمتنا العربية، وما الذي تحتاجه هذه الأمة من أجل تحقيق استقلالها السياسي، ونهوضها الاقتصادي، ومكانتها الدولية.

استعرضت غياب مراكز الأبحاث الذي أدى إلى التقهقر الفكري والمعرفي الذي شهدته الجامعات العربية من أقصاها إلى أدناها، واستعرضت كيف تم تدمير العراق بعد أن تمكّن من تحقيق نهضة في البحث والإبداع العلمي. ومرت أمامي كارثة سحب التصويت على تقرير غولدستون، لتؤكد كيف أن تراجع القيم يؤدي إلى التفريط بالحقوق والمصالح والمكانة. واستنتجت أن التخلف المعرفي لا ينتج تخلّفا اقتصاديا وحسب، بل يؤدي إلى تراجع روح المبادرة والكفاح والحيوية لدى المجتمعات، خاصة بعد أن تابعت طوال أسبوعين الشهداء الأحياء الذين يعتكفون في المسجد الأقصى ليحموه بأجسادهم وأرواحهم، بينما لا تظهر بعض الإمكانات العربية العسكرية والأسلحة الفتاكة التي تمتلكها الأنظمة العربية، إلا إذا كان النزاع داخليا، فيكون القتلى الذين تذيع وكالات الأنباء الرسمية عددهم كل يوم من المعارك من أبناء الجلدة والوطن والأرض أيضا. فترى القيم مقلوبة، فهم يقاتلون الشقيق بضراوة مستخدمين الطائرات والدبابات ويحاصرونه، ويقاطعونه، ثم يلقون السلام على العدو صاغرين!

أول ما علينا الاعتراف به، هو أن ما حدث بالنسبة لتقرير غولدستون، هو خطوة نوعية لما كان يحدث منذ زمن، وخاصة منذ كامب ديفيد وأوسلو، حين بدأت دول عربية علاقاتٍ طبيعيةً مع الكيان الصهيوني، بينما رفضت دول أخرى إسلامية وغير إسلامية إقامة علاقات مع هذا الكيان بسبب استمراره بالاحتلال والاستيطان والاغتيال والحروب. ولشد ما شكت بعض الدول الإسلامية وغيرها من مواقف بعض العرب التي أحرجت الآخرين الممتنعين عن إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني، وخاصة عندما يحرضون ضد الشقيق وينسقون مع العدو ضده.

وقد سجلنا جميعا خلال الحرب على غزة مواقف أردوغان وشافيز، التي تجاوزت بكثير المواقف التي يتخذها بعض الزعماء العرب دفاعا عن المدنيين العرب وهم يُقصفون بالقنابل الفوسفورية. لا بل تابعنا باهتمام مثير مواقف القاضي اليهودي ريتشارد غولدستون وأعضاء مجلس حقوق الإنسان، وأغلبهم من غير العرب والمسلمين، الذين أمضوا الوقت والجهد وتعرضوا لضغوط هائلة، ولابتزاز مرعب، وحملات تشهير، ولكنهم لم يتراجعوا عن قول الحقيقة عن الجرائم التي ارتكبها قادة إسرائيل ضد المدنيين في غزة، ولم يترددوا في توجيه الاتهام لهم، وتمسكوا بكرامتهم المهنية، وبإرضاء ضميرهم وشرفهم، وواصلوا المعركة رغم كل الضغوط التي مورست عليهم، متمسكين بقيم التحضر والعدالة.

وقد كان وجه القاضي غولدستون كتابا من ألف صفحة، وهو يؤجل التقرير بناء على طلب رسمي فلسطيني، فقد قرأت فيه الخيبة والغضب والحزن والأسف واللوم والحيرة والاستغراب والاستنكار، حيث عكست عيناه المنكسرتان عيون مئات الشهداء من الأطفال والنساء المدنيين التي أطفأت النور فيها قنابل أولمرت وباراك واشكنازي الفوسفورية، وعبّرت تقاسيم وجهه عن ألم أمهات ويتامى وأهل الضحايا. وكانت العدالة دافعا لوقفته التي سجلت له في التاريخ الإنساني.

والاستنتاج من هذا الاعتراف: الأول هو أن قضية فلسطين لم تعد فقط قضية الفلسطينيين وحدهم، بل قضية الإنسانية في العالم اليوم. فقد كان لافتا أن أميرة هاس وعددا من الكتّاب اليهود ومنظمات حقوق الإنسان التي عملت من أجل العدالة، وقاومت الضغوط السياسية، قد استشاطت غضبا من هذا التفريط المجاني بحق الضحايا في ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين على غزة، من عقوبات يستحقونها، وبتحقيق حلم الشعب الفلسطيني الذي كان ضحية هذا الإجرام طوال أكثر من ستة عقود. ومن اليوم فصاعدا على الجميع أن يطرحوا قضية فلسطين كقضية عدالة دولية تعني كل شرفاء العالم، كما كانت قضية شعب جنوب أفريقيا، حيث شاركت دول العالم برمتها في حملات المقاطعة لجنوب أفريقيا العنصرية في كل المجالات إلى أن انهار نظام الفصل العنصري. وثاني ما علينا الاعتراف به هو أن إسرائيل قد غيّرت أسلوبها التقليدي، واعتمدت مبدأ الاختراق كأولوية أولى في قضمها للحق العربي، وذلك عبر إذكاء الفتن الداخلية، وتجنيد الآخرين من صغار النفوس لخوض معاركها بدلا منها تحت مسميات مختلفة، ومن هنا يمكن أن نستذكر أن التواطؤ مع الأعداء كان أصلا أحد أهم أسباب الخسائر التي منيت بها هذه الأمة، منذ أبو رغال حتى اليوم، ولكنّ حالة الإحباط التي تعتري العالم العربي، والتشويه لصورته ولغته وثقافته وتاريخه واتهامه بالإرهاب، قد أضاف إلى إمكانيات العدو بتحقيق اختراقات أهم وأعمق وأشمل مما فعله سابقا، ولذلك علينا أن نفرز أعداء القضية، ليس على الحدود فقط، كما كان يحدث في السابق، بل داخل الحدود، وهذا بحاجة إلى معايير جديدة، وطرق تقييم جديدة، وجرأة في الطرح وتسمية الأشياء بأسمائها، لا أن نهادن أو نجامل بقضايا تتعلق بسلامة الأوطان. في الوقت الذي نركز فيه على عدد الضحايا في العراق وفلسطين وعلى قتال داخلي هنا وآخر هناك، تتعرض هذه الأمة لحملات شرسة لتقويض هويتها، فاللغة العربية تتعرض لحملة لا مثيل لها في تاريخ المغرب (انظر جريدة «الشرق الأوسط» 13/9/2009)، حيث تتحرك الفرنسية لتكتسح العربية التي تتلقى الضربات، ولا يخفى على أحد التقهقر والتراجع في اللغة العربية والإنتاج الفكري العربي بكل الميادين والمواضيع. ولهذا أسبابه أيضا ذات العلاقة بواقع عربي معقّد تغتال إسرائيل وأعوانها خيرة العلماء فيه ويتواطأ البعض على من يبقى منهم في الداخل كي يختاروا الهجرة على البقاء، أو أنهم يحيدونهم في منازلهم. هذا بالإضافة إلى الهجرة الشبابية، حيث يخسر العرب أكثر من سبعين ألفا من خريجي الجامعات سنويا، وذلك نتيجة عدم تمكن العالم العربي برمّته من خلق مؤسسات فاعلة توفر فضاء للبحث والإنتاج والتميّز، وهذا أمر لم يعد يحتمل التغاضي أو الإهمال أو التأجيل، لأن الأسس التي نسير وفقها لم تعد قابلة للحياة.

إن القيم القابلة لاستعادة الحق العربي تنحسر وتتلاشى في المجالات السياسية والاقتصادية والفكرية والإنسانية، وتتجه الأضواء إلى معارك منفصلة ومجتزأة دون مواجهة الموضوع ككل ومعالجة أسبابه العميقة. ولا شك أن الصهاينة الذين يفاخرون بأنهم كانوا أساسيين في تلاشي العراق كقوة إقليمية وبلد متحد (محاضرة وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق آفي ديختر 4 أيلول 2008)، وتصريحات نتنياهو «بضرورة وجود الدولة اليهودية»، وتصريحات ليبرمان المتكررة بأن «لا سلام مع الفلسطينيين لسنوات عدة»، كلها تعتمد على ضعف العرب وليس على قوة الإسرائيليين. وملخص ضعف العرب الذي يطيح بمكانتهم من تحت أقدامهم، هو أن الأوطان تراجعت في حساباتهم إلى المرتبة الثانية أو الثالثة، وجلس أشخاص مكان الأوطان يدّعون الأهمية والحرص والعمل من أجلها، بينما يكتشف المواطنون في مفاصل حاسمة ودقيقة أنه لم يتم صون الأمانة.

إذا كان دافيد بروكس يتحدث عن حرب ثقافية قادمة، فلا بد لنا نحن العرب جميعا من إعادة النظر بالقيم السياسية والثقافية والأخلاقية التي أوصلت قضايانا إلى هذا الدرك الفظيع، ولا بد من إعادة صياغتها وفق أسس حضارية ووطنية وأخلاقية نقية تضمن تربية الجيل بشكل سليم يعيد له حيويته وقدرته على الكفاح والعمل من أجل حماية حقوق الأمة.