المال الخبيث والجهاد والدكتور القرضاوي

TT

نشرت جريدة «روزاليوسف» اليومية بتاريخ 6 أكتوبر 2009 الخبر التالي: «أفتى الدكتور يوسف القرضاوي خلال المؤتمر المنعقد أمس بنقابة الصحفيين الذين استقبله بعضهم بتقبيل الأيدي، بجواز الجهاد بالمال (الخبيث) قائلا: يجوز التخلص من الأموال التي جمعت بطرق غير شرعية مثل الربا لصالح المجاهدين بفلسطين، فهو يحرم على صاحبه الذي جمعه من الحرام، ولكنه حلال للتبرع به لنصرة القدس والفلسطينيين. وأضاف أنه على الشعوب العربية والإسلامية والأقليات الإسلامية بالخارج أن ينظموا وقفات احتجاجية يوم الجمعة المقبلة ليكون يوم غضب لنصرة الأقصى».

من المعروف أن المتحدث مع جماعة يختار موضوعا يعرف مسبقا أن الجماعة منشغلة به، حائرة بشأنه وترغب في التخلص من حيرتها بالوصول إلى إجابات موثوقة من مرجعية معروفة تكنّ لها الاحترام. فهل كان هذا هو الحال مع أعضاء النقابة أو عدد منهم؟ هل هناك مشكلة في مصر لا نعرفها، وهي أن هناك عددا من البشر الذين حصّلوا كميات هائلة من المال الحرام أو الخبيث كما عرفه هو، ثم بدأوا يشعرون بآلام خبيثة تحرمهم من النوم بعد أن استيقظت ضمائرهم فجأة أو بالتدريج، فراحوا يبحثون عن مصارف حلال ينفقونها فيها، فجاء الدكتور القرضاوي فأراح ضمائرهم بفتواه؟

الحق أنني لا أعرف الإجابة، غير أنني أعرف بحكم الخبرة وسنوات العمر أن هؤلاء الذين يعملون في مجالات تحصيل المال الخبيث على كثرتها، لا ينشغلون كثيرا أو قليلا بالحرام والحلال بعد أن أماتوا ضمائرهم منذ زمن بعيد. لقد اختار الدكتور مثالا ومصدرا واحدا للمال الخبيث وهو الربا، موقظا بذلك قضية قُتلت بحثا وهي: هل البنوك التي تحصل على فائدة بنوك ربوية؟ بالطبع هو لم يتعرض لذلك بوضوح، غير أن هذا هو المفهوم من كلامه أو فتواه. هو لم يتكلم عن المصادر المعروفة للمال الخبيث، ربما ترفعا وتهذيبا، ومنها بالطبع السرقة.. الرشوة.. تجارة المخدرات.. عمليات النصب والاحتيال.. زراعة الأفيون.. التهريب.. سرقة أعضاء الإنسان وبيعها.. سرقة أراضي الدولة.. الجرائم الإلكترونية.. إلى آخر قائمة الجرائم التي يعرفها أصغر محام ووكيل للنائب العام. فهل يعرف الدكتور شخصا من هؤلاء المجرمين يشعر بالألم لما اقترفه من جرائم ويبحث عن طريقة لغسل أمواله وضميره في الوقت نفسه فأنعم عليه بهذه الفتوى..؟ ربما. هل حدث وقابل الدكتور أحد هؤلاء المجرمين وسأله بعد أن قبّل يده: يا مولانا.. أنا باشتغل حرامي.. وعملت فلوس كتير قوي من السرقة.. وعاوز أتخلص من هذه الفلوس الحرام.. ولا أريد الاكتفاء بالتخلص منها، بل أريد تحويلها إلى فلوس حلال.. ماذا أفعل بها؟

عندها جاء الرد والحل السحري: إوع تصرف منها مليما واحدا.. كل ما تصرفه منها على نفسك هو حرام.. غير أنك عندما ترسلها لنصرة القضية الفلسطينية فهي حلال.

غير أن هذه الفتوى لن تحل مشكلة الشخص طالب الفتوى، لأنه في النهاية سيحتفظ بجزء من ماله الخبيث لينفق منه على نفسه وبالتالي سيأكل ويشرب وينفق على ذويه من الحرام. هنا كان يجب تحديد النسبة المطلوبة من الفلوس الحرام لكي تتحول إلى حلال، كأن يقول له: ادفع 90% من أموالك الحرام لنصرة القضية الفلسطينية التي ستتحول أوتوماتيكيا إلى حلال، وعش بالــ 10% الحرام الباقية..

طبعا مشكلة هذا المجرم الحرامي ستكون أكثر تعقيدا عندما ينتقل إلى السؤال التالي: لنصرة من في القضية الفلسطينية؟ هل أرسلها لفتح أم لحماس أم للجبهة الشعبية..؟ وهل ستكون حلالا لو أرسلتها لنصرة قضايا أخرى قريبة مني.. أقصد هنا في مصر..؟ هناك قرى عديدة تشكو من انعدام أو شح مياه الشرب النقية.. هناك مدارس في حاجة إلى صابون ومطهرات لمواجهة إنفلونزا الخنازير.. فهل من حقي أن أتبرع لهم بأموالي الخبيثة لكي تتحول إلى أموال حلال، أم أن الفلوس الحرام الخبيثة تتحول إلى حلال حميدة في فلسطين فقط؟

نأتي الآن لحكاية الربا، أقول بأشد قدر من الوضوح: النشاط الربوي موجود في أحشاء المدينة والقرية في كل العصور وليس البنوك، وما كتبه ديستيوفسكي في روايته العبقرية «الجريمة والعقاب» سوف تقرؤه في صفحة الحوادث في جريدة «الأهرام» في 7 أكتوبر 2009 تحت عنوان «يذبح جارته المرابية لسرقة عشرة آلاف جنيه بالقليوبية»، وهو بالضبط ما دارت حوله رواية ديستيوفسكي، عدد كبير من المرابين في العالم كله يموتون مقتولين. هل تعتقد يا سيدي الدكتور أن هذه العجوز المرابية، هي أو غيرها، كان من الممكن أن تنشغل لسبب ما بمسألة الحرام والحلال فيما حصلته من أموال؟

أنا لا أعتقد أن هذه الفتوى لها صلة بالربا والمرابين أو ببقية الجرائم التي يعرفها قانون العقوبات، غير أنها في القليل ستكون مريحة لضمائر هؤلاء الذين يعملون في تهريب المخدرات بين الحدود، والتي تستخدم أموالها في شراء السلاح والمتفجرات. ولكن لماذا هذا المثال في نقابة الصحفيين المصرية؟ أنا أفهم أن يحدثهم عن الفلوس الحرام الناتجة عن تشويه بعض الناس واغتيالهم، أفهم أن يحدثهم عن الخلط بين التحرير والإعلان وأثره المدمر على حرية الرأي والتعبير، غير أنني لا أفهم أن يحاول إقناعهم بأن الحرام ممكن أن يتحول إلى حلال بمجرد أن نلصقه بالقضية الفلسطينية.