عن انتفاضة الملك عبد الله وقمة دمشق.. «حركة تصحيحية» في العلاقات العربية

TT

تشكل القمة السعودية ـ السورية محطة أولى مهمة في مسار طويل يمكن أن نسميه «باللغة السعودية» عملية إعادة بناء التضامن العربي وترتيب أوضاع العلاقات بين الدول العربية في مواجهة مجموعة من التحديات الإقليمية المتزايدة والتهديدات المتنامية وانطلاقاً من القضية الأم، أي قضية فلسطين واحتمالاتها سلماً أو حرباً.

هذا المسار يمكن أن نسميه أيضاً «باللغة السورية» حركة تصحيحية لواقع الوضع العربي الراهن الذي أمعن في الوهن والتشظي نتيجة سلسلة طويلة من الانقسامات والخلافات والعداوات، التي جعلت من العرب مجرد مساحة جغرافية وبشرية مترامية غير ذات فعالية رغم الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة والحجم الهائل لما تملكه من الثروات والطاقات القادرة على أن تلعب دوراً فاعلاً ومؤثراً سواء في قضايا المنطقة العربية والإسلامية أو في قضايا العالم برمته ومعظمه ينظر إلى المنطقة العربية من زاوية أنها تمثل منطقة حيوية لأمنه واستقراره، على ما دأبت أميركا على القول.

عندما قام خادم الحرمين الشريفين خلال قمة الكويت بإعلان انتفاضته على الواقع العربي المفكك والمريض، استعمل عبارات حازمة وحاسمة كانت بمثابة قرار شجاع ومتعال تجاوز كل الآلام والجروح والإساءات التي كانت قد تراكمت في أمكنة كثيرة وفي مقدمها الرياض، ليدعو إلى فتح صفحة جديدة تقوم على إحياء روح التضامن والتعاضد بين الدول العربية جمعاء، بما يجعل للعرب كلمة مسموعة ورأياً ناقداً في قضايا المنطقة والعالم.

لا يغالي المرء إطلاقاً إذاً قال إن الأعوام الأخيرة التي حفلت بالخلافات بين الأشقاء العرب جعلت من العالم العربي مشاعاً سياسياً يخترقه الآخرون سواء كانوا من الأصدقاء أو الأعداء الإقليميين، وتعامله القوى النافذة في العالم بأسلوب لا يخلو من الهوان.

كان الواقع يحتاج فعلا إلى غضبة تقلب الصفحة، فالكلمة في المنطقة العربية باتت عملياً في شكل أو آخر لدى ثلاث قوى إقليمية، ليست في النهاية أهم من العرب لو كانوا مجتمعين وموحدين. وهذه القوى هي:

أولا: العدو الإسرائيلي الذي مضى بعيداً في حروبه واعتداءاته ضد الفلسطينيين واللبنانيين تحديداً، والذي تعامل بكثير من الفظاظة مع «المبادرة العربية للسلام»، التي سبق أن وضعها الملك عبد الله وأقرتها القمم العربية تباعاً، وهي المبادرة القائمة على قرارات الشرعية الدولية وعلى مبدأ الأرض مقابل السلام، والتي تشكل وحدها أساساً لسلام عادل ودائم وشامل في المنطقة.

وفي غياب كلمة عربية موحدة وقوية وفاعلة، لم تتحرك الولايات المتحدة ولا الرباعية الدولية لاتخاذ موقف صارم يفرض على إسرائيل اقتناص هذه الفرصة التي أكدت أن العرب يملكون تصوراً للسلام خلافاً لكل المزاعم الإسرائيلية، التي حاولت دائما اتهامهم بأنهم لا يريدون السلام، بل يسعون وراء العنف والإرهاب.

ثانياً: إيران التي تحاول مصادرة القضية الفلسطينية قافزة فوق كل العرب وهم أهل الحق وأهل القضية، وذلك عبر رفع شعارات المقاومة والممانعة، وقد تمكنت من خلال تحالفها مع سورية أن تؤمن دعماً لـ«حزب الله» ساعده في تحقيق انتصارات ضد العدو الإسرائيلي، وهو ما شكل دفعاً مضاعفاً للأذرع الإيرانية المتحركة في المنطقة، التي ما لبثت أن لعبت دوراً مؤثراً في العراق ثم أحبطت «اتفاق مكة» الذي رعاه خادم الحرمين الشريفين بين السلطة الفلسطينية و«حركة حماس».

ومع استمرار سياسة العسف والعدوان والتوسع الإسرائيلية اكتسبت الشعارات الإيرانية مزيداً من المقبولية، حتى بدا الأمر وكأن طهران هي الساهرة على قضية العرب الأولى، بينما كانت أذرعها تتحرك في أمكنة كثيرة آخرها ما يجري الآن في صعدة وحرب الحوثيين في اليمن، وهي حرب لا تستهدف اليمن وحده بل كل دول الخليج العربية وفي مقدمها المملكة العربية السعودية التي تمثل اليمن بالنسبة إليها جغرافياً واستراتيجياً أضلعاً حيوية واستراتيجية. وفي هذا السياق برز إعلان الحوثيين قبل أيام عن سيطرتهم على منطقة منبه على الحدود السعودية مما يعزز المخاوف من قيام «القاعدة» باستغلال الوضع هناك لشن عمليات إرهابية ضد المملكة.

ومن الواضح والمؤكد أن كل هذه الخطط والتحركات الإيرانية تهدف بالتالي إلى تحقيق أهداف تهم المصالح الفارسية أكثر من المصالح الفلسطينية، إن من خلال السعي إلى اكتساب دور محوري إقليمي أو من خلال امتلاك أوراق للضغط والمساومة مع الدول الكبرى بهدف الحصول على الطاقة النووية، التي لن تلبث أن تستعملها عصا قوة لفرض ظلال هيمنتها على الخليج، في حين يطالب الرئيس أحمدي نجاد بدور شريك في قيادة العالم.

ثالثاً: استيقاظ حلم النفوذ الماضي التركي، بالاندفاع جنوباً ربما لاكتساب دور محوري يساعد في فتح بوابات الشمال الأوروبي المقفلة تقريباً في وجه أنقرة رغم عضويتها الأطلسية.

هذا الاندفاع تمثل أولا بترتيب العلاقات مع سورية ثم برعاية المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب، ثم باتخاذ موقف حازم من إسرائيل على خلفية العدوان الفوسفوري المتوحش على غزة.

وفي النهاية بات ينظر إلى تركيا كلاعب في المشاع السياسي الشرق أوسطي، يستطيع أن يحصل على «المقاولات» و«التعهدات» من الباطن الأميركي، في حين أن توافر كلمة عربية موحدة وموقف عربي متضامن يمكن أن يفيد العرب ويدعم مصالحهم مباشرة من دون وسطاء لهم مصالحهم رغم أنهم من الأصدقاء.

وفي الخريطة الاستراتيجية التي ارتسمت في ذهن خادم الحرمين الشريفين، أن رؤية الرئيس جورج بوش حول مبدأ «قيام الدولتين» يمكن أن تكون قد ذهبت معه رغم أن خلفه باراك أوباما تعمد مخاطبة العرب والمسلمين بلغة أكثر حرارة ورغبة في التعاون وخصوصاً في حل القضية الفلسطينية.

لكن شتان بين ما سمعه العرب منه في جامعة أنقرة ثم في القاهرة وبين الموقف الأميركي، أولا من العدوان البربري على غزة، وثانياً من مسألة الاستيطان والتوسع، حيث عجزت كل جهود الإدارة الأميركية في وقف ونحو جرافة واحدة عن المضي في قضة أراضي الفلسطينيين، ورغم هذا رضخ أوباما وفريق عمله إلى نظرية تل أبيب عندما راحت واشنطن تدعو العرب، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، إلى اتخاذ «مبادرات حسن نية» بالتطبيع مع إسرائيل الماضية في التوسع والاستيطان، وهو ما دفع الأمير سعود الفيصل أن يرد بلهجة حازمة ولا تخلو من غضب على هيلاري كلينتون في مؤتمرها الصحافي المشترك في واشنطن، أن العرب يرفضون أي خطوة في اتجاه التطبيع مع إسرائيل إلا على قاعدة الأرض مقابل السلام التي تستند إليها «المبادرة العربية للسلام» فالتطبيع يأتي بعد الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية.

وفي ظل الأزمة النووية الإيرانية المتفاقمة، ومع ارتفاع وتيرة التهديدات الإسرائيلية والأميركية إلى حد ما، باستعمال القوة العسكرية لضرب المنشآت النووية الإيرانية، ازدادت المخاوف من أن تتحول المنطقة العربية، من غزة إلى جنوب لبنان وصولا إلى دول الخليج، ساحة معركة كبرى وخصوصاً في ظل التهديدات الإيرانية بقصف القواعد والمصالح الأميركية في المنطقة بالصواريخ، التي تقام استعراضات دورية لإطلاقها كما يعلم الجميع.

وسط كل هذه الخريطة المتشابكة من الأخطار والتحديات، لم يكن معقولا بقاء الوضع العربي على ما هو عليه من الضعف والانقسام. لم يكن معقولا أيضاً أن لا يقوم أحد من القادة العرب ليقول: كفى، كفانا شرذمة. كفى العائلة العربية هذا الإغراق في التشظي. تعالوا ننسَ كل الخلافات ونعيد بناء التضامن الذي يشكل مظلة لمنعة الجميع وقوتهم وحصانتهم في هذه المنطقة.

ولأن الملك عبد الله رجل مبادرات رائدة، كانت انتفاضته في قمة الكويت. وها هي القمة مع الرئيس بشار الأسد في دمشق تمثل محطة بارزة في مسار يفترض أن يعيد بناء المثلث العربي بانضمام مصر، حيث من شبه المؤكد أن الديبلوماسية السعودية، التي تعمل عادة في جو من التكتم وبعيداً عن الأضواء، قطعت شوطاً متقدماً في مساعيها لترتيب العلاقات بين سورية ومصر، ومن غير المستبعد إذا صفت نيات الجميع، أن تكون القمة المقبلة في ليبيا في آذار (مارس) من سنة 2010 موعداً لاكتمال عقد التضامن العربي المستعاد، فتكون المفارقة الكبرى عندما يستضيف الرئيس معمر القذافي، الذي تعود التنكيل بالقمم العربية، قمة التضامن!!