«نوبل» أوباما.. فرصة لإنقاذ قوة الدفع

TT

«الفرص تتحكّم بالرجال، وليس العكس»

(هيرودوتس)

من الواضح أن الأشهر القليلة الفائتة كانت صعبة على رئاسة باراك أوباما. فقد انتهى «شهر العسل» السياسي وفترت الحماسة التي استقبلت التغيير الكبير في واشنطن، وانصرفت القوى السياسية بيمينها ويسارها، تقدميها ورجعيها، إلى مواصلة نشاطها المعتاد. بل وصلت الأمور بجو ويلسون، أحد أعضاء مجلس النواب الأميركي الجمهوريين عن ولاية ساوث كارولينا ـ حيث أطلقت الرصاصة الأولى في الحرب الأهلية الأميركية دفاعا عن حق الولايات الجنوبية بالمحافظة على الرق ـ أن قاطع أوباما بكلمتي «أنت تكذب» لدى إلقائه خطابا أمام جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس. وهو حدث غير مألوف جرّ توبيخا للنائب اليميني تلاه اعتذار رسمي منه، وتعليق من الرئيس السابق جيمي كارتر جاء فيه أن بعض معارضة سياسات أوباما تنبع من خلفيات عنصرية.

وكانت قوى اليمين الأميركي التي يجسّد الحزب الجمهوري طليعتها، من دون أن يختصرها، قد شنّت قبل أشهر ولا تزال حرباً ضروساً ضد خطط الرئيس الديمقراطي لإصلاح النظام الصحي. وتعكف أبواق اليمين الإعلامية، وفي مقدمها شبكة «فوكس نيوز» ومن لف لفها، على ترويج حملة تحريض واستفزاز سافرة ورخيصة وصلت غير مرّة إلى وصف سياسات أوباما بأنها «شيوعية»!

وعلى الصعيد الخارجي، لقي أوباما ويلقى المعاملة ذاتها من يمين فاش آخر هو اليمين الليكودي الإسرائيلي، الذي رفض صراحة في الأسابيع الماضية استراتيجية التفاوض التي كلفت الإدارة الأميركية بها السناتور السابق جورج ميتشل «بطل» مفاوضات سلام أيرلندا الشمالية. وفي وجه التعنت والاستخفاف الواضحين من بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته أفيغدور ليبرمان بأي سلام حقيقي يقوم على وقف الاستيطان والالتزام بالانسحاب من الأراضي المحتلة وحل قضيتي القدس وحق العودة ارتبكت إدارة أوباما وتلعثمت وترنّحت.. وكادت تعلن الاستسلام. ومَن يتذكر التاريخ القريب ـ على الأقل ـ لعلاقة الليكود مع اليمين الفاشي الأميركي فلا بد أنه يتذكّر الوثيقة السيئة الصيت «قطع نهائي: استراتيجية جديدة من أجل ضمان الكيان» A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm

التي أعدّها لنتنياهو عام 1996 غلاة صهاينة «المحافظين الجدد» على رأسهم ريتشارد بيرل ودوغلاس فيث وديفيد وورمزر وزوجته الإسرائيلية ميراف وورمزر وروبرت لوينبرغ. وقد شكل معظم هؤلاء فريق العمل والتخطيط الذي «ألّف ولحّن» استراتيجية إدارة جورج بوش الابن الكارثية في الشرق الأوسط، وكان فيث وورمزر، بالذات، بين عامي 2001 و2005 من أعمدة الفريق السياسي والاستخباراتي في البنتاغون الذي خطّط «صقوره» ونفّذوا غزو العراق، بينما كان الفرنسي الصهيوني لوران موراوييك ـ المقرّب من بيرل ـ ينظّر لتقسيم الشرق الأوسط انطلاقاً من شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج. ونصّت تلك الوثيقة في جوهرها على خلاصة استراتيجية الليكود الإسرائيلي وقاعدة دعمه وتغذيته في الولايات المتحدة وأوروبا إزاء منطقة الشرق الأدنى، أي: أولا ـ تغيير النظام العراقي. ثانياً ـ احتواء سورية. ثالثاً ـ الرفض المطلق لفكرة «الأرض مقابل السلام» واعتماد «السلام مقابل السلام» بديلا، مع ما يستتبع ذلك من تعامل مع القوى الأخرى في المنطقة، بما فيها إيران.

اليوم، هذا بالضبط ما تنفذه حكومة الليكود، وما تبتزّ به المعارضة الليكودية ـ الجمهورية إدارة أوباما المترددة المرتبكة، ولكن بعد ترك العراق وعدة مناطق من الشرق الأوسط تحت رحمة إيران. وبدلا من تشجيع «الاعتدال العربي» يسعى اليمينان الليكودي والأميركي إلى إفقاد ما تبقى من اعتدال عربي عاقل ومستقل ـ تمييزاً له عن الاعتدال الذيلي العميل ـ أي صدقية يحتفظ بها في الشارعين العربي والإسلامي، وتقديم دعم غير مباشر ولا محدود للفكر الإسلامي الموغل في محافظته وتشدّده وعنفيّته لكي يسهل تصدير صورته إلى الغرب وابتزاز الرأي العام الغربي تارة باسم الإرهاب، وطورا باسم الأصوليّة، ودائماً وأبداً باسم التخلّف.

خلال الأشهر الأخيرة، إذاً، خبا بريق باراك أوباما.. وفقدت تجربته الرائدة الكثير من بريقها أميركياً ودولياً. بل، قبل أيام معدودات من فوز الرئيس الأميركي بجائزة نوبل للسلام فإنه تعرّض لنكسة شخصية موجعة على المسرح الدولي عندما سقط ترشيح مدينته شيكاغو لاستضافة أولمبياد 2016، على الرغم من نشاطه الدؤوب في دعمه. وأمام الشعب الأميركي أقرً، بعد العودة من كوبنهاغن، بالهزيمة.. مدركاً أنها ستُستغل ضده. وحقاً، كان خصومه على وشك إطلاق حملة شماتة بـ«الخذلان الدولي» للرئيس الذي راهن على تحسين صورة أميركا في الخارج، وحرص على طمأنة شعوب العالم إلى حسن نياتها تجاههم.

ومن هنا، وعلى الرغم من أن كثيرين ما عادوا ينظرون إلى «نوبل السلام» على أنها جائزة تسمو عن التسييس والمصالح، ولاسيما بعدما مُنحت لكثيرين لا يستحقونها، فإن منحها لأوباما جاء ليعيد الثقة إلى معسكره السياسي، فيطمئن إلى أن العالم لم يشح بوجهه عنه.. ولم يبعد يده عن يد أوباما الممدودة إليه.

إن الرّسالة التي توجّهها الجائزة اليوم، بصرف النظر عن قيمتها الحقيقية، رسالة ثقة وتشجيع وتفاؤل إلى كل من البيت الأبيض والشعب الأميركي. وهي رسالة تأتي في توقيت ممتاز، لأنها تسند تجربة أميركية حسنة النية من دون أن تكون بالضرورة قوية الالتزام. وهي تقدم هذا الإسناد بعد تعرّض هذه التجربة لسيل من الانتقادات وحملات التجني، وارتكابها عدداً مؤسفاً من أخطاء التقدير.

إلى أين تتجه إدارة أوباما بعد هذه النسمة المنعشة؟ بعد هذه التحية الحسنة التوقيت؟

منطق الأمور، لا حدس السياسة فقط، يقول إن على الرئيس الأميركي أن يمسك الثور من قرنيه، فيحسم أمره ويلجأ إلى المجازفة بلا تردد.. لأن فرصاً من هذا النوع قد لا تتكرّر.

على الرئيس أن يتعامل مع الحقائق من أرضية الأخلاقيات التغييرية المبدئية التي طرحها إبان حملته الانتخابية.. التي بنت لصالحه قوة دفع غير مسبوقة، وأدخلت إلى الآلية السياسية الانتخابية في أميركا قوى طالما شعرت أنها مهمّشة وغير معنية بنظام لا يعترف بها. وهذه القوى هي التي صنعت له في نوفمبر (تشرين الثاني) انتصاره التاريخي الكبير، وأكسبت أول مرشح رئاسي أسود أصوات ولايات بيضاء شبه خالصة، وولايات محافظة تقليدياً مثل إنديانا ونورث كارولينا.

أمام باراك أوباما اليوم فرصة جديدة للتعامل مع فاشيي الخارج والانتصار عليهم كما انتصر في نوفمبر الماضي على فاشيي الداخل.

فهل يستثمر الفرصة.. فينقذ نفسه، وتجربته، وأميركا.. ومعها كل قوى الخير والتعايش والعدالة في العالم؟