الصراعات الفلسطينية تصيب العرب بالمَلَل

TT

السبب في انبعاث الغازات الملوثة للبيئة العربية، هو الصراعات الفلسطينية. بات العرب يشعرون بالملل، بقدر ما يشعرون بالأسى، إزاء هذا الرُكام الهائل من النفايات التي تنتجها التصريحات العبثية المتبادلة بين التنظيمات المتصارعة.

تربَّت الأجيال العربية المتعاقبة، خلال الأعوام المائة الأخيرة، على شكل من أشكال التقديس للقضية الفلسطينية. باتت القضية الأولى. سواء هزموا أو انتصروا، فقد حارب العرب من أجلها. مات مئات الألوف. احتلت أراضٍ عربية. دمرت مدن. تشردت وَنُكِبَتْ أجيال. قامت وسقطت أنظمة. نشبت حروب أهلية. نشأت في أحزمة البؤس المحيطة بالعواصم مخيمات تعج بالبؤس. صدَّرت إلى المجتمعات العربية عنف اليسار، ثم عنف «الجهاد».

بل ساهمت القضية الفلسطينية في تعطيل التنمية العربية. اضطر العرب لخوض سباق تسلح مع الدولة المحتلة. الغريب أن التنظيمات الفلسطينية التي تتراشق بزفت وطين المزايدات، لا تلاحظ، ولا تعي خطر النفايات على سمعة ونبل القضية، وعلى احتضان العرب لها.

لم يتراجع الوعي القومي والديني بخطر الكيان الإسرائيلي على الحاضر والمستقبل العربيين. لكن القضية الفلسطينية فقدت في الوعي العربي نبلها وطهارتها، بسبب صراعات زعمائها، من دون أن يَعوا أن تلويثهم الإعلامي للبيئة، بات بشكل غمامة من الغازات العادِمة للاهتمام العربي بالقضية.

رويدا رويدا، راح يتشكل شعور عربي بأن هناك بين الفلسطينيين مَنْ يرغب، عامدا متعمدا، في تدمير العالم العربي، أسوةً بما حدث لفلسطين، أو على الأقل هز استقراره وأمنه، بالاستقواء عليه، سواء بالتورط في صراعاته المحلية والبينية، أو بالتحالف مع أعدائه.

الشواهد والأدلة كثيرة. في إمكاني، تقديم ملابسات أزمة التقرير الدولي في حرب غزة، كشاهد على مدى التفتت والتمزق اللاحقين بالقضية، على أيدي الفلسطينيين، والأيدي العربية والأجنبية المستغلة لهم.

أوفد خالد مشعل وفدا «حماسيا» إلى القاهرة، ليقنعها بصرف النظر عن اتفاق المصالحة مع فتح والسلطة! لماذا؟ محمود الزهار «حمساوي غزة» يجيب بأن الأجواء «غير مهيأة للمصالحة»! ماذا يقصد بصراحة؟ حماس تريد أن تكون متحررة من أي اتفاق يُلْجِمُها عن مهاجمة عباس والسلطة الفلسطينية. حماس تريد استغلال الخطأ في سحب تقرير غولدستون من الأمم المتحدة، لاغتيال عباس سياسيا. تريد استعادة الشعبية والثقة اللتين فقدتهما في الضفة وغزة، بعد أخطائها الكارثية في التمرد على السلطة، والتسبب في الحصار الإسرائيلي للقطاع، ثم في شن حرب إسرائيلية عليه، قتل فيها 1400 غزي، وجرح خمسة آلاف آخرون.

هل هذا «الرَّغْي الإعلامي المُزْبد» يخدم قضية التحرير؟ ارتفعت شعارات التخوين والتكفير ضد عباس، فيما الزهار ومشعل وإسماعيل هنية ساكتون عن مضمون التقرير، عن مطالبة حماس بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في سلوك حماس، منذ تمردها على السلطة، إلى شن حرب عبثية، إلى رفض مشعل تجديد اتفاق الهدنة الذي توصلت إليه مصر بين حماس وإسرائيل، الأمر الذي أتاح لإسرائيل ضرب المدنيين في غزة بوحشية.

«طظ في مصر»! العجوز الإخواني محمود عاكف، من غير تقدير لجهد مصر في توفير حياة شعب غزة، وبلا تقدير لمسؤولية المشيخة الزعامية، يسارع إلى التلاعب الدعائي في قضية التقرير، لخدمة حماس. بات الحزب، عند إخوان مصر وحماس، فوق القضية، فوق المصالحة. فوق الوحدة الوطنية. يريدون استغلال التقرير ضد عباس، من دون أن يُنَفِّذوا ما فيه! بل ها هو الزهار يقلب المنطق. يعلن عن اعتزامه تشكيل لجنة «لتفنيد ما ورد في التقرير ضد حماس»، ضد استخدامها المدنيين الغزيين درعا واقيا لميليشياتها أمام آلة الحرب الإسرائيلية الهمجية!

قائد شرطة حماس يكشف، قبل أيام قليلة، أن مئات من رجاله قتلوا، ليس في الاشتباك مع القوات الإسرائيلية، إنما في الغارات على مَقَارِّ الشرطة. مَنْ المسؤول عن حشد هؤلاء، في مقارّ معرضة حتما للقصف؟ لا عذر قُدم لزوجاتهم وأهاليهم. إنما وعد الزهار الأرامل بتزويجهم «اتقاءً للفتنة». هل ستكشف لجنة الزهار الأسرار؟ لماذا لم يكن الضحايا يقاتلون العدو المتوغل في غزة، كالسكين في الزبدة؟ لماذا اقتصرت المقاومة على إطلاق الصواريخ والهاونات، من داخل التجمعات السكنية ومدارس وكالة الإغاثة الدولية، الأمر الذي أتاح لإسرائيل قصف اللاجئين إليها؟!

لا أدافع عن عباس. لا شك أن هناك خطأ جسيما في سحب التقرير. قلت إن عباس ضيَّع في لحظات الشعبية التي كوّنها في سنوات. قدم أمناً واستقراراً نسبيا لثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة. بات من الشعور بالقوة، بحيث يتحدى حماس بإجراء انتخابات جديدة رفضتها، لانصراف «المؤمنين» عنها، في إثر الشقاء الذي أوقعتهم فيه.

أشعر بأن عباس بحاجة إلى مستشارين ومحللين سياسيين من أهل الكفاءة والخبرة، لا من أهل الحاشية والثقة. صاحب القرار السياسي يجب أن يدخل في حسابه عواطف ومصالح شارعه الشعبي، تماما كما فعل ليبرمان ونيتنياهو في لَيِّ ذراع أوباما، عندما حاول فرض وقف الاستيطان. مصافحة نيتنياهو. إيفاد عريقات إلى واشنطن للدخول في مفاوضات سرية مع الإسرائيليين. كل ذلك أضر بعباس الذي يجب أن يكون حاسما: لا مفاوضات بلا تحديد أجل لها. لا مفاوضات بلا ضمان أميركي بإقامة الدولة الفلسطينية، في حالة فشل الحوار. لا مفاوضات إلا على قضايا الحل النهائي.

بديهي أن تسيء إسرائيل لعباس وسلطته. ليبرمان يعلن أنه لم يعد هناك مفاوض فلسطيني. سفير نيتنياهو لدى لجنة حقوق الإنسان فضح سفير عباس. قال إنه، وليس إسرائيل، الذي سحب التقرير. كان أمام اللجنة فرصة سانحة، وبأغلبية مريحة، لإحالة تقرير غولدستون إلى مجلس الأمن، ليحيله بدوره إلى محكمة الجرائم الدولية، تمهيدا لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين. الأرجح أن أوباما لم يكن ليستخدم الفيتو. كان عليه أن يحرج إسرائيل، وإلا انفضح أمام العرب والمسلمين.

كان على عباس أن يضع كل ذلك في حسابه. أميركا لا تستطيع الضغط عليه. ليس هناك حاليا بديل له. بل إسرائيل منحت حماس المجال لإحراجه. إسرائيل أبقت في الحرب على نظام حماس في غزة. إسرائيل تعرف أن المجتمع الدولي لن يجبرها على مفاوضة حماس التي لا تملك شرعية السلطة، والمُصَنَّفَة «منظمة إرهابية» تسعى في الوهم النظري والتنظير العقائدي «لتدمير» إسرائيل.

لعل دفء العلاقة السعودية/ السورية، بعد زيارة العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز إلى دمشق، يسمح لي بالهمس في مسمع العاصمة السورية، بأن هناك مَنْ يرغب في استمرار القطيعة، ولا أقول الخصومة، مع الرياض. كان هناك مَنْ قصف الحي العلوي في طرابلس لإثارة عواطف الرئيس بشار. بعد الزيارة، انطلق أحمد جبريل من الأرض اللبنانية التي يحتلها لإسناد حماس، تخوينا لعباس. وتهجماً على مصر. معتبرا اتفاق استعادة الوحدة الفلسطينية الذي تسعى القاهرة إلى تحقيقه، مجرد «طبخة مسمومة»!

جبريل محسوب أيضا على طهران. لكن مجرد سماعه أن دمشق أَجَّلَتْ زيارة عباس، بانتظار وضوح ملابسات سحب تقرير غولدستون، فقد أدخل في حسابه أن إيران، لابد، راغبة في تعكير صفو لقاء القمة السعودية/ السورية، ونسف اتفاق المصالحة الوطنية الفلسطينية. ألم أقل إن «الرغي الإعلامي» الفلسطيني يسبب الأسى، بقدر ما يسبب الملل لدى العرب، إلى حد القرف والغثيان؟