العالم الثالث وإشكالية الولاء

TT

تمثل كلمة الولاء للوطن في مجتمعات دول العالم الثالث أمرا مثيرا للجدل. وعلى الرغم من أن الولاء للوطن قد بات قيمة من القيم التي يطالَب الفرد بالتمسك بها، تحقيقا لوحدة الدولة واستقرارها، خاصة في ظل الانفتاح العالمي وحمّى العولمة، وبروز ظاهرة الميليشيات المسلحة الطائفية والحزبية، داخل هذه الدول والتحديات المصاحبة لها، فإن ذلك لم يحفز علماء الاجتماع السياسي في هذه الدول، لدراسة هذه التحديات الجديدة، لمفهوم الولاء للوطن. كون قيمة تعزيز الولاء للوطن، لدى الفرد وفي هذه المرحلة بالذات أصبحت أمرًا أكثر إلحاحًا من ذي قبل.

ويعاني إنسان العالم الثالث في الأصل من الحيرة، تجاه بعض المفاهيم الغائمة في تصوره. فزادت لديه بلبلة المفاهيم، نتيجة الانفتاح وظروف العولمة، التي وجد نفسه يموج في بحرها، وتسارع التنمية من حوله. فأدخله ذلك في شبكة معقدة من التجاذبات المتقاطعة. والولاء أحد هذه المفاهيم التي تقاطعتها التجاذبات، وجزأتها المصالح المتعددة. فأصبح الولاء ولاءات. ولم يعد الولاء للوطن ذا قيمة مثالية.

أضف إلى ذلك: تنوع وسائل الاستقطاب الثقافي الموجه إلى إنسان العالم الثالث، وتعدد مجالاته. مما زاد من ذوبان مفهوم الولاء للوطن، وزاد من الأعباء على الدول تجاه مواطنيها، لمقاومة هذا الاستقطاب والتقليل من آثاره.

كانت مفردة الولاء مرتبطة قديماً بالسلطة والحرب، وهي الآن أكثر أهمية مما كانت عليه، حيث أصبحت مرتبطة بالقيم الدينية، والسياسية والاجتماعية للفرد، ودرجة تأثيرها على انتمائه للوطن ومقدار ولائه له. ورغم أهمية النداءات لتقديم الولاء للوطن، على غيره من الولاءات من قبل البعض، فإنها لم تسلم من الشوائب، وظلت مشوشة عند كثير ممن ينادي بها ويمارسها على أرض الواقع. ومن أعظم الشوائب التي فتتت مفهوم الولاء: الانقسام على الولاءات الصغيرة، وإذكاء روحها بين الأفراد، سواء لطائفة أو حزب أو قبيلة بل قد تجاوز ذلك في عالمنا الثالث ليكون ولاء الفرد لقوى خارجية تبعا لولاء طائفته أو حزبه. فتتحول المواطنة إلى لا مواطنة. وقد يصبح الولاء ضد الدولة بطريقة خفية، وذلك وفق مبدأ التناقض.

الولاء للوطن له قيمة وروح. ولا بد أن تكون القيم مصاغة برؤية صحيحة، واضحة في أذهان الفرد المواطن. ولا بد أن تكون الروح حاضرة ومتفاعلة مع تلك القيم. وإذا كانت المحافظة على روح الولاء ضرورة في دول العالم الأول والثاني، فإنها في دول العالم الثالث أكثر ضرورة، لوجود نفس المبررات، وزيادة مستوى الضبابية، إضافة إلى مواجهة وسائل الاستقطاب المشار إليها. لذلك فإن البرامج والفعاليات لا تكفي وحدها، في تجلية المفهوم وغرس روح المواطنة والولاء.

المواطنة مشروع حضاري أكبر من برنامج أو نشاط احتفالي. المواطنة مشروع يشمل ما قبل الدولة، والدولة نفسها، وما بعد الدولة. وهذه المراحل الثلاث، لا تجتمع فيه بمرور الزمن فقط، بل هي نمو عضوي، وتطور تاريخي تراكمي، لا يتوقف عند حد معين. وأي خلل في هذا التطور تكون نتائجه عكسية ومخيبة للآمال.

فالتعاون بين المواطن والدولة، لتحقيق تلك المواطنة، وغرس الولاء والانتماء، لا بد له من جذور في عقيدة جامعة، تستطيع وحدها أن تجعل ثمن الجهد محتملا، مهما كانت قيمته لدى الفرد، فيضحي بمصلحته الخاصة، وبما دون الولاء للوطن، في سبيل تحقيق تلك المواطنة، وتعزيز ذلك الولاء. وباختصار لا بد من العودة إلى الأصول، والمنابع التي نبعت منها عقيدة كل دولة من دول العالم الثالث على حدة، والعمل على تأصيل مفهوم المواطنة لديها انطلاقا من تلك العقيدة، وفقا لموروثها الديني والاجتماعي والسياسي.

الأمر الآخر، والمهم في ترسيخ مفهوم المواطنة والولاء، هو القيام بالواجب تجاه الوطن، حيث أهملت الكثير من هذه الدول في ثقافتها الاجتماعية والسياسية وسياساتها التربوية والإعلامية، غرس وترسيخ ثقافة الواجب لدى الفرد، قبل المطالبة بالحقوق. لأن المواطن أصبح دائما ما يتطلع إلى الحصول على الحقوق أولا، متأثرا بما تركز عليه وسائل الاستقطاب الخارجية، الموجهة والمهيجة للمشاعر، حول تلك الحقوق وإهمال القيام بالواجب. ولتحقيق تلك المواطنة، لا بد أن تكون مطالبة الفرد ليست مقتصرة فقط على المطالبة بحقوقه، بل ينبغي علينا جميعا، مواطنين ومسؤولين، أن نركز الاهتمام نحو الواجب. فالمجتمعات التي تزدهر وتنمو، هي المجتمعات التي لديها رصيد من الواجب فائضا على الحقوق.

والواقع أن تخليص (مفهوم الولاء للوطن) من كل ما علق به من تفسيرات دينية خاطئة أو ارتباطات خارجية، طائفية وحزبية أو مناطقية واجتماعية ضيقة، مع تعزيز قيمة القيام بالواجب قبل المطالبة بالحقوق، هو روح الولاء، وهو الروح الحقيقية للحياة الأخلاقية العاقلة للإنسان تجاه وطنه. وهي صمام الأمان لوحدته واستقراره.