هل تغير مفهوم القوة في العالم؟!

TT

لا أدري ما الذي ورد على ذهن الرئيس باراك أوباما عندما عجز عن منح مدينته شيكاغو دورة الألعاب الأولمبية التي كانت تتمناها وتطمع في مكاسبها وأنفقت على محاولة الحصول عليها قرابة 100 مليون دولار. ولا ندري عما إذا كان قد اعتبر خروج مدينته المفضلة من الجولة الأولى في الاختيار بين المدن نوعا من فقدانه لعصاه السحرية في إقناع العالم حتى بعد أن استعان بزوجته ميشيل في ذلك الاختبار.

ولكننا نعلم أن هناك في الولايات المتحدة من ظن أن النتيجة بفوز ريو دي جانيرو كانت دليلا على أن كراهية أمريكا لم تنته باختيار رئيس من أصول إفريقية للسلطة في البيت الأبيض، أو أن انتخاب الرجل الذي لا يحبذ استخدام القوة كثيرا كان مدخلا لفقدان القوة العظمى الباقية في الدنيا لقوتها وأسنانها. وفي القاهرة تساءل عمرو أديب متهكما في برنامجه الشهير على شبكة أوربت التلفزيونية عما إذا كان في الأمر مؤامرة صهيونية حيكت بليل لاستبعاد مدينة الرياح في أولى جولات السباق، مستحضرا في ذلك ما قيل حول هزيمة وزير الثقافة المصري فاروق حسني في معركة انتخاب مدير عام اليونسكو، وعما إذا كان ذلك دليلا على تراجع دور مصر الإقليمي ونفوذها في المنتديات الدولية.

المسألة هكذا كانت بداية نقاش وحوار دار بين مجموعة من المتخصصين في الشئون الإستراتيجية حول ما جرى لمفهوم «القوة Power» في العلاقات الدولية، وعما إذا كان لا يزال باقيا على حاله ومكانته المركزية في العلاقات الدولية المعاصرة؛ أم أن الدنيا قد تغيرت إلى الدرجة التي لم يعد فيها ثبات لمفهوم في المعنى والمبنى. وكما هو معروف فإن أصل المفهوم جاء من «الميكانيكا» حيث تتحول الطاقة إلى حركة مؤثرة خلال زمن بعينه فتنتقل الأمور من حال إلى آخر لم تكن عليه من قبل. وعندما تمت استعارة المفهوم في العلوم الاجتماعية فقد بات تأكيدا على قدرة التأثير، وإجراء التحولات، ودفع الآخرين إلى القيام بما لم يكونوا على استعداد للقيام به لو تركوا لحالهم. وفي صورتها السوقية والفجة في علاقات الدول كانت «القوة» تعني القوة العسكرية، أو القدرة على الإيذاء، ولكن سرعان ما جرى على المفهوم ما يجري عادة من تعقيد وتركيب، فدخل فيها من عناصر ما هو محسوس وملموس مثل المساحة والسكان والقدرة الاقتصادية والعسكرية، وما هو غير قابل للقياس مثل القيادة والمهارة في تحويل الطاقة النابعة من كل ما سبق إلى نتائج سياسية.

فهل تغيرت الدنيا إلى الدرجة التي لا تستطيع فيها دولة لا تزال ـ بكل المعايير الخاصة بالقوة العسكرية والمادية ـ في مقدمة دول العالم من استخلاص فوز في سباق بين مدن بشأن تنظيم دورة للألعاب الأولمبية، أم أن هناك معايير أخرى للقوة بات من المستحيل استبعادها. «العولمة» في هذه الحالة أعطت المشروعية لريو دي جانيرو من زاويتين: الأولى أنه لم يسبق لدولة من دول أمريكا الجنوبية أن أدارت دورة الألعاب الأولى في العالم، ولا يمكن لقارة بأكملها أن تستبعد من ساحة المنافسة التي تسلط عليها أضواء لا تسلط في مناسبات أخرى، وهل ننسى تلك الأيام العظيمة التي أعطيت لملعب «عش الطائر» في بكين والذي منح الصين عالمية لم تحصل عليها منذ اختراع الطعام الصيني!. والثانية أن البرازيل قد باتت في قلب القوى الصاعدة في عالم اليوم سواء بالمعنى الاقتصادي للكلمة أو بالمعنى الاجتماعي للحيوية الكامنة في دولة جاءت من قلب الديكتاتورية إلى عالم الدول الديمقراطية بكبرياء وزخم. وفي الحالتين أصبحت البرازيل دولة من مجموعة العشرين حتى بدون سلاح نووي تخلت عنه طواعية في يوم من الأيام وجعلت من احترام معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية شهادة للقوة وليس علامة على الضعف.

هل تغير العالم إلى هذه الدرجة أم أن «القوة» هي التي تغيرت، ولم تعد المعطيات المعروفة لها والتي تعطي واشنطن مكانتها الخاصة تعني الكثير طالما كانت آخر من يخرج من الأزمة الاقتصادية، وطالما أن دولا أخرى في العالم تحرز السبق في مجالات عدة. فمن المدهش أن دولة مثل فنلندا تحرز في معظم الأحوال المكانة الأولى في مقياس الشفافية العالمية بينما تأتي الولايات المتحدة بعدها بدرجات بعيدة، أما النرويج فإنها تحرز قصب السبق في حسابات «نوعية الحياة» والتي تعني احترام البيئة وتوفير ما يسبب للمرء السعادة والرضا. وبالطبع فقد كثر الحديث حول الصين والهند، والمدى الذي وصل إليه «تعدد الأقطاب» من الناحية الاقتصادية، حيث يوجد اليابان والاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة، ولكن حتى «القوة الاقتصادية» لم تعد وحدها مثل «القوة العسكرية» هي العامل الرئيسي في تحديد مكانة الدول في هرم القوة العالمي.

ومنذ فترة ليست بعيدة همس لي صديق من الهند في أحد المؤتمرات أنه لا بد من حساب «القوة الحضارية» ضمن حسابات القوة في العالم، وأن هناك في الدنيا دول يمكن تسميتها «قوى حضارية Civilizational Powers» تراكم تأثيرها العالمي عبر حقب طويلة نتيجة ما أضافته الحضارة العالمية. ساعتها كان يقصد دولا مثل الهند بالطبع والصين ومصر واليونان وتركيا وإيران، ولكن ذلك لم يكن مقنعا كثيرا، ظننته محاولة لتعزيز مفهوم القوة بما جرى في الماضي بينما لا يمكن استبعاد المفهوم بعيدا عن الحاضر، حيث التأثير والقدرة على التغيير ونقل الطاقة في زمن بعينه. ومن الجائز بالطبع أن تلقى هذه الدول نوعا من الاحترام عما قدمت في زمن قديم، ولكن تقديرها الحالي سوف يبقى رهنا بما تقدمه الآن، وما سوف تقدمه غدا.

وكل ما يمكن قوله الآن هو أن مفهوم القوة يعيش حالة من السيولة والتغير ليس فقط لأن القوة العسكرية الأمريكية وإن أطاحت بالقوة الغاشمة لصدام حسين، فإنها بعد ذلك لم تفعل أمرا واحدا خيرا بل إنها دمرت بلدا وحضارة بأكملها. وتبدو ذات القوة ومعها قوة حلف الأطلنطي كلها عاجزة عن تغيير الأمر في أفغانستان لأنهم جميعا عجزوا عن كسب القلوب والعقول، التي لم يعد ممكنا كسب معارك دون كسبها. وربما كان ذلك هو حجر الزاوية في الموضوع كله، فإذا كانت الأصوات الانتخابية هي عنوان الشرعية داخل الدول، فإن أداتها في النظام العالمي هي رضا الشعوب وتوافقها ورضاها وكله لا يأتي من خلال القوة بقدر ما يوجد من خلال الإقناع والفهم والاعتماد المتبادل والاحترام الإنساني. وربما كان باراك أوباما لا يزال أكثر الرؤساء الأمريكيين شعبية من الناحية العالمية، إلا أن الولايات المتحدة نفسها لا تزال بعيدة عن ذلك الرضا والقبول، لأنها لا تزال في العراق وأفغانستان وهي على استعداد للتقاعس حينما يصل الأمر إلى المستوطنات الإسرائيلية حتى ولو كان أوباما أول من قال بانعدام مشروعيتها منذ الرئيس كارتر.

ما هو سر الموضوع كله، ولماذا نطرح تحولات مفهوم القوة الآن، والإجابة هي لأن التغييرات الجارية الآن في المفهوم تعطينا التوجه المناسب للحصول على حقوقنا المشروعة. وحينما تكون القوة «كوكتيلا» من الكفاءة الاقتصادية وتحسين نوعية الحياة والمشروعية السياسية والإنجاز الاجتماعي والحضاري، فإن ذلك يجعل الكثير منها متاحا لنا بأكثر مما نقدر من قبل. فطوال التاريخ العربي الحديث كانت الدول العربية من مستهلكي القوة التقليدية سواء تلك التي تستهلك السلاح أو تلك التي تستهلك الحياة، أما القوة الحديثة فهي تجعل للسلاح قيمة أقل، وللشرعية والمشروعية والحكمة والمعرفة قيمة أعلى. وبينما كان مصدر السلاح دائما الخارج، والدول الكبرى والعظمى والأسواق السوداء، فإن أشكال القوة الأخرى يمكنها أن تنبع من داخلنا، فإذا كنا نريد عدلا في العالم، فإن أول خطواته هي العدل في الداخل، وكسبا للعقول والقلوب في الخارج، ولن ينفع لا هذا وذاك إلا إذا تعلمنا من دول كثيرة في العالم بحثت عن القوة داخلها.