أوباما يصطدم بحائط

TT

تصادف وجود أحد الإصدارات الجديدة على مكتبي يحوي مقالا يطرح أحد أفضل التحليلات التي اطلعت عليها على الإطلاق على توجه الرئيس أوباما تجاه الحكم، ويعد المقال مفيدا على نحو خاص في تفهم الصراع الدائر حول إصلاح الرعاية الصحية.

يحمل الإصدار اسم «ناشونال أفيرز»، وتتألف هيئته الاستشارية من مجموعة من الأكاديميين المحافظين البارزين يتنوعون بين جيمس دبليو سيزر وجيمس كيو ويلسون. أما المقال الذي لفت نظري فحمل عنوان «أوباما وتوجه السياسات»، كتبه وليام شامبرا، مدير «مركز برادلي للأعمال الخيرية والإحياء المدني» التابع لمعهد هودسون.

مثلما الحال مع كثيرين آخرين، شعر شامبرا بالصدمة حيال «الطموح البالغ» للأجندة التشريعية لأوباما وميله نحو تركيز السلطة في يد فريق عامل قوي داخل البيت الأبيض مفعم بالشخصيات البارزة على أصعدة قضايا بعينها.

ويرى شامبرا هذا الأمر باعتباره دليلا على أن «أوباما بالتأكيد رئيس يعنى في المقام الأول بتوجه السياسات. بالنسبة له، تعني مسألة ممارسة الحكم ليس مجرد تناول تحديات منفصلة حال نشوئها، وإنما صياغة سياسات شاملة ترمي إلى منح الأنظمة الاجتماعية الواسعة ـ بل في الواقع المجتمع ذاته ـ أشكالا ومهام أكثر عقلانية وتناغما. في إطار وجهة النظر تلك، فإن المشكلات طويلة الأمد المنظمة المتعلقة بالرعاية الصحية والتعليم والبيئة لا يمكن حلها في صورة شظايا صغيرة، وإنما يتحتم التعامل معها ككل».

ويعزو شامبرا جذور هذا التوجه إلى الحركة التقدمية التي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عندما خلقت التغييرات الاجتماعية والاقتصادية السريعة ساحة سياسية تهيمن عليها صراعات جماعات المصالح. وتولد لدى العناصر التقدمية اعتقاد بأن العلاج يكمن في تطبيق الأفكار الجديدة للعلوم الاجتماعية على فن الحكم، وهو توجه يقوم على فكرة أن الحقائق ستحل الصراع بين الآيديولوجيات.

في الواقع، لا يعد أوباما ـ الذي يشكل نتاجا بالغ الذكاء لجامعات النخبة ـ أول رئيس ديمقراطي يتبع هذا التوجه، حيث حاول من قبله جيمي كارتر، وعلى نحو خاص بيل كلينتون، ممارسة الحكم على هذا النحو. إلا أن أوباما جعل الأمر أكثر وضوحا، حيث يعلن بانتظام عزمه الاعتماد على التحليل العقلاني، بدلا من تضييق نطاق القرارات، فيما يخص التعامل مع جميع القضايا بدءا من الدفاع الصاروخي حتى أفغانستان، وكذلك القضايا الداخلية الكبرى كافة.

وكتب شامبرا: «على صعيد سياسي تلو الآخر، من النقل إلى العلم، من السياسات الحضرية إلى السياسات تجاه صناعة السيارات، يبدو نهج أوباما متطابقا تماما ويسير على النهج التالي: الأنانية والجمود الآيديولوجي دفعانا للنظر إلى المشكلة في صورة شظايا منفصلة.. يجب أن نتخلى عن ضيق الأفق لنتبع وجهة نظر ذات طابع منظم أكبر، وعندما نتمكن في نهاية الأمر من صياغة سياسة وطنية متناغمة مدعومة ببيانات تجريبية وموضوعية بدلا من آراء سطحية منفصلة بعضها عن بعض، سنصل إلى حلول ليست أكثر فاعلية فحسب، وإنما أقل تكلفة أيضا. هذا هو شعار السياسة الرئاسية».

تاريخيا، لم يفلح هذا التوجه، حيث أخفق التقدميون في تحقيق مكاسب تتجاوز مجرد الصعود المؤقت، واتسمت فترتا رئاسة كارتر وكلينتون بإخفاقات ملفتة للانتباه على صعيد السياسات المتبعة. ويرى شامبرا أن السبب وراء ذلك يكمن في أن هذا التوجه المتميز بقدر بالغ من العقلانية والشمولية لا يتلاءم تماما مع الدستور، الذي يوزع السلطة بين الكثير من العناصر المختلفة، والتي تولي معظمها اهتماما أكبر بكثير بتفاصيل سياسة بعينها عن تناغمها العام. يذكر أن مشروع قانون الطاقة المطروح حاليا أمام مجلس النواب يشكل مجموعة من المقايضات المتناغمة من شأنها تقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، والمساعدة في تحسين الغلاف الجوي. عندما خرج إلى النور، كان مشروع القانون عبارة عن مجموعة من الإعانات والأموال الموجهة إلى عدد متنوع من الصناعات والجماعات. والآن يجابه مشروع القانون صدودا من قبل قوى مشابهة داخل مجلس الشيوخ.

وقد توقع مقال شامبرا بالضبط ما يحدث الآن فيما يتعلق بقضية الرعاية الصحية. في الحقيقة، يعي أوباما ومدير مكتب الموازنة بيتر أورزاغ، ومديرة شؤون إصلاح النظام الصحي نانسي آن ديبارل، التعقيدات التي ينطوي عليها نظام الرعاية الصحية، وبمقدورهم صياغة قانون أكثر فاعلية بكثير.

إلا أن القانون يوجد الآن في أيدي المشرعين وجماعات الضغط الذين لا يأبهون كثيرا بعقلانية النظام، وإنما ينصب اهتمامهم على الصورة التي سيؤثر القانون من خلالها على مصالحهم. إن الجميع يتبع أجندة ضيقة الأفق. على سبيل المثال، يرغب زعيم الأغلبية داخل مجلس الشيوخ، هاري ريد، في تمتع مركز جديد لعلاج السرطان في نيفادا من وضع مميز.

الواضح أن الديمقراطية والحكم التمثيلي أعقد بكثير عما يود التقدميون وورثتهم، بمن فيهم أوباما، الاعتراف به. لذا، ليس من العجيب أن نجدهم يصابون بخيبة الأمل مرارا.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»