تربية + تعليم

TT

هو رجل استخدم مع ابنه أسلوباً فريداً في التربية بجميع المراحل، والواقع أنها ليست تربية بالمعنى الحرفي بقدر ما هي (تربية + تعليم) في نفس الوقت.

يقول لي: إن تلك الفكرة لمعت في ذهني منذ أن كان عمر ابني ثلاثة أعوام، وطرحتها على زوجتي التي وافقت عليها.. فقد توليت أولا كيف يستخدم يديه بأن انبطح معه على الأرض وأساعده على بناء أشكال هندسية بالمكعبات، وكنت أهدف من وراء ذلك إلى أن تتعود أصابعه على العمل بعناية ودقة.

بعد أن بلغ الرابعة، بدأت أدربه على استخدام العِدد والأدوات، ونظريتي في ذلك أن العِدد والأدوات تدرب اليد والعقل معاً، كما أنها تعلم الإنسان على التركيز والقدرة على التصرف.

وعندما كان أحد الأقفال يحتاج إلى مسحة بالزيت، كنت أدعوه إلى مساعدتي، وكل ما كان يفعله في البداية هو أن يناولني الأدوات، أو أسأله عما يجب أن نفعله لنخرج المفتاح من الباب.

وكنت أذهب طوعاً لتنظيف البالوعة أمامه، أو أصلح أحد اللعب المخلوعة، وأسعد بمشاهدة ضحكته عندما يرى أن المشكلة قد حلت.

وأحياناً أتعمد أن أفصل سدادة حوض المغسلة عن السلسلة، فيذهب هو بحماس ويخرج الأدوات (ويعافر) بها، ثم يأتيني راكضاً ومنتصراً ليقول لي وهو يلهث: لقد أصلحتها.

وللأسف أن بعض أصحابي كانوا يسخرون مني من هذه الطريقة التي أتبعها مع ابني، وحجتهم في ذلك أنني أحمله ما لا طاقة له به، فأقول لهم: بالعكس فهو لم يشعر أنني أجبره على شيء، فطريقتي معه هي أشبه ما تكون بطريقة (ترفيهية)، كان تدريبي له يوسع مداركه، ويحيل الأسئلة بيني وبينه إلى ألعاب مسلية أو مغامرات ممتعة، بل إنه كان سعيداً عندما أذهب به إلى (ميكانيكي) السيارات الذي يشرح له ويعطيه دروساً عملية في الآلات.

لقد كان غلاماً عادياً ولكنه كسب (تجارب) تفوق فيها على أقرانه، وكلما حصلنا على إجازة كنا نذهب ونسافر معه إلى أماكن مختلفة، وهو الذي يعد حقيبته قبل السفر، وهو الذي يشتري التذاكر، وهو الذي يراقب الحقائب ويدفع (البقشيش)، ويحاسب التاكسي، ويحتفظ بمفاتيح الغرف.

وأذكر أنه هو الذي طلب مني أن أشتري له كرة جغرافية للأرض، مع كتاب الأطلس، واشتريتها وزدت عليها من عندي بكتاب تاريخ العالم، وتتبعنا فتوحات (الإسكندر) واكتشافات (كلومبس)، وانتشار الإسلام، وعواصم الدول ورؤسائها وعلمائها وأدبائها وفلاسفتها وشعرائها وفنانيها.

ولكي أعمق مفاهيمه أكثر وأوسع مداركه اشتريت له (ميكروسكوباً) يكتشف به العالم العجيب لأدق المخلوقات، (وتلسكوباً) صغيراً نصبته على السطح ليشاهد عظمة الكون وعظمة خالقه.

وعندما تخرج قبل سنة من الثانوية العامة، وودعنا ليسافر ويلتحق بكلية الهندسة في دولة بعيدة، أعطيته النقود التي يحتاج لها طوال العام وقلت له: لن تنال بعد ذلك (قرشاً) واحداً مهما كانت الظروف، وإذا تبقى بعد ذلك معك شيء فهو لك، وأرجو أن ترسل لي تقريراً شهرياً عن مصروفاتك.

وعندما انتهى من سنته الجامعية الأولى بنجاح وحضر لنا في الإجازة، وإذا به يأتي لي بساعة ولوالدته بعقد ثمين كهدية، وذلك مما توفر لديه من مصروف.