تاريخ لم يتوقف.. وصراع ضمن الحضارات

TT

انشغل العالم خلال العقدين الماضيين بنظريتين سياسيتين طلع بهما اثنان من كبار الأكاديميين الأميركيين: الأول، صامويل هانتنغتون، الذي تبنى فكرة «صدام الحضارات» التي أطلقها البروفسور برنارد لويس. والثاني فرانسيس فوكوياما، الذي أطلق فكرة «نهاية التاريخ» عندما رأى الاتحاد السوفياتي ينهار والولايات المتحدة تبقى كقطب أحادي.

رافق السقوط السوفياتي بروز الولايات المتحدة في حرب تحرير الكويت كقوة لا تقاوم. ففيما رفضت موسكو التحرك، أو تطبيق «معاهدة الصداقة» مع بغداد، تجمعت نحو 33 دولة حول واشنطن، دون اعتراض من أحد. وقد دفع ذلك جورج بوش الأب إلى القول آنذاك: «إننا نتجه إلى نظام عالمي جديد».

الفترة الأخيرة أظهرت أن النظريتين اللتين شغلتا العام، طلوعا ونزولا، كانتا أشبه بتكهنات مدرسية ساذجة. فصراع الحضارات الذي بدا وكأنه اندلع في بداية الألفية من نيويورك، تحول إلى صراع بين الحضارات نفسها: التجاذبات بين القوى الإسلامية في آسيا والعراق ولبنان وفلسطين. والقتال بين الأفارقة كما في رواندا. والحرب بين المسيحيين (وأيضا المسلمين) في البلقان.

أما بالنسبة إلى نهاية التاريخ وانتهاء عصر المعسكرات والكتل، فإن أميركا بوش الأب التي جمعت حولها العالم في حرب الكويت، لم تعد تستطيع أن تضمن رفع مظلة الأمم المتحدة لدخول العراق. وقد عارضتها فرنسا جاك شيراك معارضة صلبة وقاسية فجرت صراعا اقتصاديا وسياسيا بين البلدين، هو الأسوأ منذ المرحلة الديغولية. وبعد ذلك تخلت عنها بريطانيا، أقرب حليفاتها، وبدأت بالانسحاب من العراق قبلها.

يضع المفكرون نظرياتهم السياسية ويشغلوننا بها كالكلمات المتقاطعة. وفي النهاية نكتشف أن ثمة خطأ أساسيا في رسم المربعات، أفقيا وعموديا. أو أن ثمة اختلافا كبيرا في تهجئة الأسماء والكلمات. يكفي، مثلا، أن تكتب السوفياتي على الطريقة المصرية «السوفييتي»، أو أميركا على الطريقة المصرية أيضا: أمريكا. لن يعود الحل ممكننا.

في العلوم السياسية ليس من الضروري أن تثبت دائما «صحة» النظرية، بل يستحسن أيضا إثبات خطئها. وقد ماتت نظرية هانتنغتون قبل وفاته الشتاء الماضي. أما نظرية فوكوياما، المستمدة من الفكر الهيغلي: إنسان حر في مجتمعات حرة، فلم يفدها سقوط السوفيات شيئا. والمثير في التنقل بين النظريات السياسية، مدى صمود فكر ابن خلدون وعلمه وتجربته. أين منه شبيهه الفرنسي، تاليران.