بنات بغداد

TT

كأي واحد من أبناء جيلي، لقيت من المرأة العراقية ما لقيته من صد وصدود، وهوى معذب مردود. كان من حلقات هذا التاريخ زميلة التقيتها في لندن. هممت بالزواج بها لردح من الزمن ثم غسلت يدي منها مدركا عبث المسعى. وقع في حبها زميل لي، الإذاعي الدكتور محمود حسين رحمه الله. ولكنه لم يتعظ بي، فواصل هذا القتال غير المتكافئ. مصري غلبان وعراقية مدللة. كان يجلس كل يوم يدخن وينتظر انتهاءها من العمل. هام بها إلى حد الجنون، يئن ويتوجع لي ويقول آه من العراقيات. في هذه الأيام يقولون يا ويل العراقيات المشردات. ولكنني أتكلم الآن عن أيام الخير. عبثا حاولت أن أثنيه عن هوسه بها.

قلت له: يا رجل نحن أمة بدوية ونقول أرض الله واسعة. والإنكليز يقولون البحر مليان سمك. فتش لنفسك عن سمكة من غير سمكات الشبوط العراقي. هناك خمسة وعشرون مليون امرأة في بريطانيا. ولكن ما الفائدة؟ الحب أعمى. راح يوسطني في الموضوع. قلت له: يا عزيزي المرأة العراقية لا تسمع كلام أحد. لو نفع كلامي معها لتوسطت لنفسي. جلسنا وبحثنا الأمر. ما هو سحر المرأة العراقية؟ إنها ليست بجمال اللبنانيات والسوريات. ولا برقة المصريات، ولا بثروة الخليجيات. فما سرها وسحرها؟ ألأنها تطبخ الباميا أحسن من غيرها؟

وهذا أمر له بُعده التاريخي. فأشهر قصة في التاريخ العربي هي قصة مجنون ليلى. قيس بن الملوح الذي جننته المرأة العراقية:

يقولون ليلى في العراق مريضةٌ

فيا ليتني كنت الطبيب المداويا

يتردد هذا الجنون بالعراقيات في شتى المصادر. لعمر بن أبي ربيعة قصيدة طويلة يتغزل فيها بابنة الرافدين، وهو كذلك يشكو من صدودها وتكبرها عليه:

لَمِمَّا شقائي تَعلّقتُكم

وقد كان لي عندكم مقعدُ

عراقيةٌ وتهامي الهوى

يغور بمكة أو ينجد

عبّر عن مثل هذا الهوى العارم ابن زريق البغدادي بعد نزوحه إلى بلاد الأندلس. وظل طيف بغداد والبغداديات يلاحقه:

أستودعُ اللهَ في بغدادَ لي قمرًا

بالكرخ من موطن الأفلاك مطلعه

لربما يعود سحر البغداديات إلى صفة «التبغدد» التي أصبحت كلمة شائعة كمرادف للدلع والتأنق، وهو ما أشار إليه الجواهري في قصيدته «دجلة الخير»:

يا أم بغداد، من ظرف ومن غنج

مشى التبغدُد حتى في الدهاقين

إيه يا بنت بغداد، يا أم الحضارات! وهذا الحضيض الذي رماك به الزمن، زمن الإرهابيين والمتزمتين. ولكنها ليلة وتنجلي وتعودين لأيامك الشامخة وتعيدين لبغداد أيام التبغدد الزاهرة، أيام الخير التي تألقت بها، وأصبح شموخك وكبرياؤك مثلا يتردد على الألسن والحناجر، قمرا بالكرخ من موطن الأفلاك مطلعه.