عاصفة تقرير «غولدستون» لم تخدم إلا المخططات الإسرائيلية

TT

ما تعرض له محمود عباس (أبو مازن) في الأيام الأخيرة، التي هزَّت الوضع الفلسطيني، ليس جديدا ولا طارئا بالنسبة للسياق العام لهذه القضية التي هي أطول قضايا التاريخ وأكثرها تعقيدا، فالمفتي أمين الحسيني الذي كان رمزا لمرحلة عربية وفلسطينية سابقة كانت رئيسية وأساسية لم يسْلَم من اتهامه بالتفريط والخيانة، وهذا حدث أيضا وإن بطرق مختلفة مع أحمد الشقيري ومع يحيى حمودة ومع ياسر عرفات الذي بقي يُشتَمُ وتلاحقه الاتهامات من «حماس» نفسها ومن حلفاء هذه الحركة العرب والإقليميين إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة في أحد المستشفيات الفرنسية بعيدا عن الوطن الذي كان يحلم أن يقيم فوقه لشعبه الدولة المستقلة.

حوصر ياسر عرفات في طرابلس لأكثر من أربعة شهور وشاركت في حصاره، إلى جانب البحرية الإسرائيلية، وحدات من جيش التحرير الفلسطيني وبعض الفصائل الفلسطينية المنضوية الآن في التحالف الذي تقوده «حماس» والذي يتلقى تمويله وتوجيهاته من إيران، ولدى خروجه من ذلك الحصار القاسي بتدخل دولي شاركت فيه فرنسا وإيطاليا واليونان والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لم يكن أمامه أيُّ خيارٍ لحماية نفسه وحماية منظمة التحرير من الشطب الذي كان ينتظره في بعض العواصم العربية إلا خيار الذهاب إلى مصر التي كان يقاطعها العرب بسبب معاهدة «كامب ديفيد» المعروفة والاحتماء بها والاعتماد عليها كما اعتمد عليها على مدى تاريخ طويل سابق في عهد عبد الناصر وبعد ذلك.

يومها وبمجرد عبور الباخرة التي ارتحل بها من طرابلس في الشمال اللبناني قناة السويس والإعلان عن أنه سيذهب إلى القاهرة للقاء الرئيس مبارك تعرض لحملة أقسى من الحملة التي تعرض لها «أبو مازن» ووجهت إليه اتهامات أشد ظلما من اتهامات «الخيانة العظمى» التي تعرض لها الرئيس الفلسطيني خلال زوبعة تأجيل مناقشة تقرير غولدستون وذلك إلى حد أن إحدى المجلات الفلسطينية نشرت صورته كغلاف أسود مع كلمة واحدة باللون الأحمر هي: «المنبوذ »!!

ثم بعد ذلك لم يسْلم ياسر عرفات من تهم الخيانة والتفريط عندما أعلن في دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في الجزائر في عام 1988 قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في إطار الاعتراف بقرارَي مجلس الأمن الدولي 242 و338 وعندما وقّع مع إسحق رابين، في ذلك الاحتفال التاريخي الذي أقيم في حديقة البيت الأبيض في واشنطن، اتفاقيات أوسلو وعندما عاد وفقا إلى هذه الاتفاقيات إلى غزة وأريحا وعندما انخرط مع الإسرائيليين في مفاوضات «ماراثونية» لم تصمد أمام مستجدات ما بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001 فكان ذلك الحصار الذي فرضه عليه إرئيل شارون في مبنى «المقاطعة» في رام الله والذي لم ينتهِ عمليا إلا بعد عودته محمولا على الأكتاف بعد وفاته الغامضة والتي لا تزال غامضة في أحد المستشفيات الفرنسية.

إن كل هذا وأكثر منه قد تعرض له ياسر عرفات من قِبل هؤلاء أنفسهم الذين بادروا وبمجرد تأجيل مناقشة تقرير غولدستون حول الحرب على غزة، الذي كانت «حماس» قد هاجمته ورفضته ووصفته بأنه يساوي بين الضحية والجلاد والذي نددت بكل من وافق عليه ورحب به، إلى إطلاق حملة إعلامية مسعورة حقا ضد «أبو مازن» واتهامه بالخيانة العظمى والمطالبة بسحب الجنسية الفلسطينية.

حتى لو لم تكن هناك أسباب موجِبة لتأجيل مناقشة هذا التقرير الذي مرَّ مثله وأكثر منه، إنْ في هيئة قرارات وإن في هيئة تقارير مماثلة، على هذه القضية الشيء الكثير على مدى كل هذا التاريخ الطويل فإن المفترض ألا يحصل ما حصل وإن المفترض ألا تتخذ «حماس» مما جرى كمينا للانقضاض على الرئيس الفلسطيني واتهامه بـ«الخيانة العظمى» وتطالب بمحاكمته وتوزع في شوارع غزة صورا مشوهة له كصورة ياسر عرفات المشوهة التي كانت نشرتها إحدى المجلات اليسارية الفلسطينية غلافا أسود لها مع كلمة واحدة هي كلمة «المنْبوذ».

كان المفترض، لو أن القلوب صافية ولو أن الحرص على فلسطين والقضية الفلسطينية هو الذي يتحكم بردود أفعال هؤلاء، أن تبادر «حماس» إلى الاتصال بالرئيس الفلسطيني وبكل هدوء وأن تطلب منه توضيحا لكل ما جرى وأن تساعده على تلافي الأخطاء إن كانت هناك أخطاءٌ قد ارتُكبت لكن هذا لم يحصل، وحقيقة أنه لم يكن متوقعا أن يحصل فهذه «الحركة» التي بقيت ترفض الانضواء في إطار منظمة التحرير رغم كل المغريات التي قدمها إليها (أبو عمار) لها برنامجٌ آخر غير هذا البرنامج الوطني الفلسطيني ولها ارتباطات عربية وإقليمية هي التي دفعتها لإفشال كل محاولات «المصالحة» التي تقوم بها مصر كلما سادت قناعة بأن الانقسام سينتهي وأن الفلسطينيين سيستردون وحدتهم الوطنية.

إن المؤكد لو أنه جرت مناقشة هذا التقرير في اجتماع جنيف السابق ولو أنه لم يجر تأجيله لأُثيرت من قِبل إسرائيل وأصدقائها التهمة التي وجهها غولدستون إلى «حماس» بالمقدار ذاته الذي كان من المؤكد أن يثير العرب والفلسطينيون وأصدقاؤهم التهمة الموجهة للجيش الإسرائيلي وهذا من الثابت أنه سيكون تحصيل حاصل، كما يقال، إذا انعقد مجلس حقوق الإنسان وفقا للدعوة الفلسطينية مرة أخرى وبصورة طارئة.

لقد أرادت حركة «حماس» من وراء هذه العاصفة التي أثارتها، واشترك فيها «الإخوان المسلمون» في كل مناطق وجودهم واشتركت فيها أيضا فصائل فلسطينية كلها ـ باستثناء حركة الجهاد الإسلامي ـ وهمية وليس لها أي وجود على أرض الواقع لا في فلسطين ولا في خارجها، تشويه صورة محمود عباس وتدمير سمعة السلطة الوطنية وسمعة منظمة التحرير الفلسطينية، والمؤكد أن هذا الذي تقف خلفه حسابات تنظيمية خاصة و«أجندات» عربية وإقليمية معروفة لا يخدم في حقيقة الأمر إلا إسرائيل ومخططات هذه الحكومة الإسرائيلية.

قبل مؤتمر «فتح» الأخير وقبل الترميمات التي أجراها محمود عباس (أبو مازن) على اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير كانت إسرائيل تجد من يستمع إليها عندما تقول إنها لا تجد الطرف الفلسطيني الذي بإمكانها مفاوضته، أما بعد ذلك وبعد أن استعادت الحالة الفلسطينية بعضا من رشاقتها فقد أصبح هذا المبرر لاغيا وأصبحت هذه الحجة الإسرائيلية غير مقبولة، ولهذا فقد جاءت هذه الحملة التي قامت بها «حماس» كخدمة لا تقدر بثمن بالنسبة للإسرائيليين ومخططاتهم في عهد حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة.

ثم بالإضافة إلى كل هذا الذي لم تستفد منه إلا إسرائيل في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة حيث يمارس عليها الأميركيون ضغوطا حقيقية لحملها على الانصياع لاستحقاقات السلام فإن «حماس» بادرت إلى استغلال حكاية تأجيل مناقشة تقرير غولدستون هذا حتى أقصى الحدود لتخلق المبرر «المقبول» للتملص من توقيع وثيقة «المصالحة» التي كان من المفترض توقيعها في نهايات هذا الشهر والتي لم تكن تريدها وكانت قد اتخذت منها موقفا تشكيكيا منذ البداية.

والآن وبعد أن حصل ما حصل فقد بات في حكم المؤكد أنه لن تكون هناك مصالحة فلسطينية ـ فلسطينية وأن غزة ستبقى الإمارة الإسلامية التي أرادتها «حماس» ومن دفعوها إلى ذلك الانقلاب الدموي في عام 2007، ولهذا فإنه على «أبو مازن» إزاء هذا كله أن يذهب إلى خيار الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وفقا للقانون الأساسي الفلسطيني كما أن عليه ألاَّ يبقى يطارد سراب التصالح مع «حماس» والتفاهم معها، والبديل هو أن يكرس كل جهوده لترتيب أوضاع بيته الداخلية، إن بالنسبة لحركة «فتح» وإن بالنسبة للسلطة الوطنية ومنظمة التحرير.