«أولاد الحارة» اللبنانية

TT

بعض المناطق الساخنة في لبنان تعيش جمرا تحت رماد. «الوضع مش منيح» عبارة تتردد باستمرار، وإن كان أصحابها يجدون صعوبة في إفهامك ما هو الأمر الذي يمكن أن يحدث فجأة، ويقلب الدنيا رأسا على عقب، كما يتخوفون.

ما بات واضحا للعيان أن هناك قذائف «إينرغا» تتطاير وتنفجر في الشمال بين منطقتين إحداهما سنية وأخرى علوية، دون أن يعرف أحد من يطلقها. وفي منطقة الشياح عين الرمانة، هاجمت جماعة أناسا من طائفة أخرى فقتلت وجرحت، قبل أن تتبرأ منها كل الأطراف السياسية وتطالب بإنزال أشد العقوبات بها. توترات مريبة أيضا في مخيم عين الحلوة، ومذكرات توقيف تطارد عديدين في الشمال والبقاع، فيما أخبار إلقاء القبض على مطلوبين تتوالى. مسؤول سياسي في لبنان، يستطيع أن يحرك مجموعة كبيرة من المسلحين، ويشعلها حربا ضروسا يقر بأنه «لا يعرف على وجه الدقة ما الذي يحدث على الأرض، ومن يتحرك ضد من؟» ويعترف المسؤول الذي يهز الدنيا أن «الوضع الأمني من الفوضى، بحيث يصعب فهم تشعباته والأيدي الأخطبوطية التي تتحكم فيه». لكن العالمين ببعض الخفايا يخبرونك أن ما حدث من تصدعات وانشقاقات بين اللبنانيين منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج سوريا من لبنان، كان يتطلب من الفريقين المتصارعين أن يتحالفا مع مجموعات شوارعية لا بل وزقاقية، كأدوات للمناورات المتنقلة في المناطق.

ولحظة حدوث مصالحات الحد الأدنى، فيما لو تشكلت الحكومة، سيجد الكثير من المشاغبين، أو المرتزقة من المسلحين، أنهم باتوا بلا سند أو عمل، وسيصبحون في الوقت نفسه عبئا على من كان يجد فيهم أدواته التي يحركها على قطعة الشطرنج اللبنانية. ويقول العالمون الذين لهم عيون وآذان في الحارات، إن المجموعات التي استخدمت في الحروب الوقائية السابقة، والمعارك الكيدية اللبنانية البينية، خاصة بعد الحرب الإسرائيلية عام 2006، باتت تشعر أن دورها انتهى أو شارف، وتحاول أن تجد لها دورا مع حلفاء جدد، أو أن تعدّل اتفاقاتها مع حلفائها السابقين. وهذا يخلق تململا واسعا في أجواء من كانوا يعتاشون على مناوشات تديرها الأقطاب الكبيرة في البلد.

ثمة رأي يقول إن تشكيل حكومة وحدة وطنية تتمتع بشيء من التفاهم سيسكت المتضررين، لا بل ويخرسهم، فيما رأي آخر يقطع بأن عملية أمنية واسعة ستتلو تشكيل الحكومة، وقد نرى عنفا شديدا، والخارجون على القانون الذين يسرحون ويمرحون لن يستسلموا بسهولة لانتهاء دورهم.

اتهام المخابرات المصرية من قبل رفعت عيد, نائب الأمين العام لـ «الحزب العربي الديمقراطي», بتجنيد جماعات تخريبية في لبنان يأتي في هذا الإطار. فثمة جماعات عديدة باتت شبه عاطلة عن العمل، تنتظر جهة تطلب منها خدمة مقابل مبلغ من المال. ويضيف أحدهم أن بمقدور رفعت عيد أن يتهم من يشاء طالما أن الساحة مفتوحة، والبلد مكشوف، وكل شيء قابل للتصديق، ومادامت الجهات الأمنية لم ولن تكشف عن أصحاب الجرائم الحقيقية من بين مئات الموقوفين، لنعرف من وظفهم ولصالح أي جهة عملوا، ليكونوا عبرة لغيرهم، هم والذين كانوا وراءهم. وهكذا سيبقى السياسيون يتقاذفون التهم التي يريدون، ويلقون بالكرة عند الجيش والقضاء، فيما تبقى الجهتان الأخيرتان صامتتين لأن الكل متورط، والبراءة البيضاء الناصعة ليست ملك أحد. والتواطؤ على الصمت وحفظ الستر، يضمن لكل الفرقاء ماء وجههم.

وتسود قناعة بين المتابعين لهذه الملفات الحارة، أن سوريا لها وجود مسلح ضارب في لبنان لن تتخلى عنه. فإضافة إلى سلاح «حزب الله» و«حركة أمل»، الذي ظهرت مفاعيله في معارك 7 أيار 2008 في شوارع بيروت، شاهد البيروتيون بأم العين سلاح «الحزب القومي السوري الاجتماعي»، وإذا أضفنا إلى ذلك، ما لسوريا من سلطة على فرقاء كثر في المخيمات، وهؤلاء لا ينقصهم الدافع أو القنبلة والمدفع كما الرشاش، فإن الجهة المناوئة لسوريا لن تقبل بأن تتجرد كليا من عدتها التي واجهت من خلالها، ولو جزئيا، الضغط السوري الهائل خلال السنوات القليلة الماضية.

ولا يختلف حلفاء سوريا، كما المعارضون لها، على أن لعبة شد الحبال، لن تنتهي غدا، والتخلي عن الأزلام الصغار في الشوارع والأزقة لن يكون سهلا، خاصة فيما لو بقي تشكيل الحكومة في عنق الزجاجة. لذلك فإن إمام أكبر مسجد في منطقة «باب التبانة» يتخوف أن تستخدم المناطق الفقيرة، والمضطربة للتنفيس، بسبب كلفة الحرب الرخيصة فيها نسبيا. ويذكرنا الشيخ مازن شحود، بأن «سنوات طويلة من المعارك الضارية في منطقتي باب التبانة وجبل محسن معا، احتاج إصلاح خرابها إلى 17 مليون دولار فقط، وهذا مبلغ لم يكن ليكفي تعويضا لإصلاح شباك في بيروت. لذلك فتحويل بعض المناطق المحرومة والمعزولة إلى حقل رماية كلما اشتد الكباش بين الطرفين المتناحرين في البلد، تكلفته محدودة ماديا ومردوده المعنوي على المتصارعين جيد». ولا يستغرب الشيخ شحود أن يكون الطرفان راغبين في التصعيد، كي تصبح الأجواء في جهوزية، إذ ما تعثرت الحكومة واحتاج أحد الجانبين لأن يضغط على الآخر.

لكن الحيرة في فهم ما يحدث تجعل الموجودين على الأرض الساخنة أنفسهم والمتورطين في نارها يصلون إلى استنتاجات سوريالية. كأن يرى البعض أن رفعت عيد هو الذي يضرب منطقته بالصواريخ كي يصرخ بعدها طالبا الإنصاف بإعطائه وزارة، بعد التقارب السوري ـ السعودي.

صحيح أن الاجتهادات تتضارب وتلتقي، وتبقى في حيرة من أمر هذا الفلتان الفوضوي المخيف، لكن ما لم يعد ينكره أحد هو أن الرغبة في التخلص من رجال الحروب الصغيرة المتنقلة الذين احتاجهم الطرفان المتصارعان لإدارتها، مع الإبقاء على بعضهم فاعلا لضرورة قد تستجد، ربما يشعر العديدين بالتوتر والقلق. فالانتظار قد طال، وثمة من يأكله الضجر، ويبحث عن مهمة بأي ثمن. وهؤلاء من الكثرة، وأحيانا من المكانة، بحيث يصعب وضعهم في السجون، لذلك فاختراع مهمات سلمية لهم، بدل معاندتهم، قد يجعل البلد في مأمن من فتنتهم وشرهم.