الوحش والسندريلا

TT

لقد كان الجيش الإيراني دائما يحمل لقب «الأبكم الكبير»، لأنه العنصر الوحيد في النظام غير المشارك في أي جدال سياسي عام، كما أنه بخلاف نظرائه في العديد من «الدول النامية» لم يحاول الاستحواذ على السلطة أو العمل كقوة سياسية محركة.

وفي عام 1905 ـ 06، رفض الجيش حماية الاستبداد ضد الثورة الدستورية. وفي عام 1911، حافظ على حياده وذلك عندما خاض «القوزاق» الذين استأجرهم محمد علي ميرزا المطالب بالحكم معركة خاسرة ضد الثوار ومقاتلي القبائل الذين كانوا يدافعون عن الديمقراطية الجديدة.

وفي عام 1925، لم يتخذ الجيش إجراء لمنع حركة التمرد التي ساهمت في إنهاء عصر القاجاريون بعد ذلك بأربعة أعوام.

وفي عام 1953، رفض الجيش أن يساعد رئيس الوزراء محمد مصدق على البقاء في السلطة من خلال سحق خصومه.

وفي عام 1979، وفي المعركة الدائرة بين الشاه وآية الله الخميني، أعلن الجيش عن «حياده» مما سمح للملالي بالاستحواذ على السلطة. ونظرا لهذا التقليد الممتد، أسس الخميني حرس الثورة الإسلامية عام 1979؛ حيث كان مدركا أن الجيش لن يقاتل الناس من أجل مساندة أي حاكم بينما سوف يفعل الحرس الثوري ذلك.

وقد حانت لحظة اختبار تلك النظرية في يونيو (حزيران) الماضي عندما كشفت الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها عن هشاشة نظام الخميني. فيقول الجنرال محمد علي جعفري المعروف بـ«عزيز» قائد حرس الثورة الإسلامية: «إن لم نكن موجودين، لتعرض النظام بأكمله للخطر. فقد خلقت الأحداث وضعا جديدا لعب فيه الحرس الثوري دورا مركزيا». ولا تمثل رؤية الجنرال هنا رؤية خيالية. فإذا لم تكثف قوات الحرس الثوري من تواجدها في شوارع طهران، لما كان من الممكن منع ملايين المتظاهرين الغاضبين من التظاهر عند مراكز السلطة لإزاحة «المرشد الأعلى»، والرئيس وغيره من قيادات النظام. ويصف مير حسين موسوي المرشح الذي يعتقد أنه وليس الرئيس محمود أحمدي نجاد هو من فاز بانتخابات يونيو (حزيران) تلك الأحداث بأنها كانت «انقلابا عسكريا».

إلا أن مصطلح العصيان أو التمرد ربما يكون أقرب إلى الحقيقة، فلم يستولِ الجنرال «عزيز» أو قواته على السلطة بشكل رسمي. كما أنه لم يبطل الدستور كذلك.

فما يرغبون في عمله هو نموذج مشابه للنموذج «التركي»؛ حيث تصبح قوات الحرس الثوري هي عصب النظام ويصبح لها الحق في الاعتراض على القرارات الرئيسية، وهو نموذج من ولاية الفقيه تستبدل فيه أخفاف الملالي بالأحذية.

وقد تحركت قوات الحرس الثوري بسرعة للاستفادة من مزاعم «إنقاذ النظام»؛ حيث مدت إمبراطوريتها للمال من خلال الاستحواذ على شركة الاتصالات القومية المخصخصة بسعر زهيد. كما أنها تستعد للاستحواذ على 300 شركة أخرى من الشركات المملوكة للدولة التي من المقرر تخصيصها بقيمة إجمالية تصل إلى 15 مليار دولار أميركي.

كما بدأ الجنرال «عزيز» كذلك حملة تطهير المناصب الوسطى والعليا للقوات منذ عام 1990.

وإذا كانت الإشاعات صحيحة، فربما يكون الميجور جنرال حسن فيروزآبادي رئيس الأركان وأحد المفضلين للمرشد الأعلى معرضا للتقاعد. ولم يخرج من يد «عزيز» سوى مجال واحد وهو الجيش، فقد ضم قوات الباسيج شبه العسكرية بميزانيتها الضخمة، واستولى على الدفاع في الخليج، وضم البحرية وجزءا من قوات الدفاع الجوي المتمركزة على طول الممر المائي الاستراتيجي.

ومما زاد الأمور سوءا، هو أن الجنرال المتألق والذي طالب باعتقال موسوي كان قد ظهر في عدة لقاءات تليفزيونية قلل خلالها من شأن الجيش النظامي، وذلك أثناء حرب 1980 ـ 88 ضد العراق.

ومن جهة أخرى، أثارت شهية الجعفري النهمة والمزاعم المثيرة للجدل التي أطلقها والمتعلقة ببطولة الحرس الثوري، غضب قادة الجيش النظامي «الأبكم الكبير» والذي اضطر للمرة الأولى إلى الإدلاء ببعض التصريحات.

فقال الجنرال حسين سعدي نائب قائد قوات الجيش النظامي كرد فعل على تصريحات قائد الحرس الثوري: «لقد ادعى أحد المسؤولين عن إحدى الهيئات التابعة للدولة أخيرا أن جيشنا النظامي كان غير قادر على الاستيلاء حتى على تل خلال الحرب ضد العراق. وذلك قمة الإجحاف. فخلال حرب الثماني سنوات، كانت القوات البرية للجيش النظامي هي التي تحمل الجانب الأكبر من المسؤولية على عاتقها».

وأضاف الجنرال سعدي: «ويجب أن نسأل: من الذي ذهب إلى جبهة القتال في الأيام الأولى للحرب وقدم أول الشهداء؟ لم يكن لقوات الحرس الثوري في ذلك الوقت ولا حتى فصيلة عسكرية واحدة، بل إنه لم يكن قد تم تشكيله بشكل لائق. كما أن القوات البرية هي التي وقفت في مواجهة اعتداء النظام البعثي الذي غزا بلادنا من خلال 12 فرقة عسكرية مدرعة، و45 وحدة إضافية.

وقد رد الجنرال حسن شاه صفي قائد القوات الجوية بالجيش النظامي ردا أكثر عنفا على الجنرال جعفري. كما أنه حطم تقليد «الأبكم الكبير» من خلال شجبه مزاعم الحرس الثوري بأنه استطاع الفوز وحده بحرب العراق. وتساءل القائد شاه صفي في خطاب: «كيف يستطيع أحد أن ينكر دور القوات الجوية البطولية في القضاء على آلة الحرب العراقية؟ ألم تكن قواتنا الجوية هي التي قضت على دبابات صدام، ودمرت أنابيب بتروله، وقضت على قواعده؟ وحتى اليوم فإن الجيش النظامي خاصة القوات الجوية هي التي تكفل الأمن للنظام والثورة ضد الأعداء من الخارج».

إن الرسالة الضمنية لكلام شاه صفي كانت واضحة: ففي الوقت الذي كانت فيه قوات الحرس الثوري أداة للقمع الداخلي، كانت قوات الجيش النظامي تعمل على توفير الأمن القومي في مواجهة الأعداء الخارجيين.

كما بدأ «الأبكم الكبير» في التذمر من معاملته باعتباره سندريلا عندما يتعلق الأمر بتخصيص الموارد.

كما أثار نائب رئيس الأركان الجنرال غلام علي راشد بعض تحفظات الجيش النظامي المتعلقة بالأجور والأوضاع العامة؛ حيث تدفع قوات الحرس الثوري لضباطها ولضباط القيادة الوسطى ضعف ما يتقاضاه نظراؤهم بالجيش النظامي. كما أن قوات الحرس الثوري تحظى بنصيب الأسد في ميزانية الدفاع ومشتريات الأسلحة. ومن جهته، قال راشد، الشهر الماضي بنبرة حزن غير متوقعة من «الأبكم الكبير»: «للمعايير المزدوجة تأثير سلبي على العقيدة القتالية لجنودنا». وبخلاف جعفري وغيره من قادة الحرس الثوري الذين ساندوا أحمدي نجاد وأصبحوا طرفا في العداء السياسي الحزبي، فإن قادة الجيش النظامي لم يعلقوا على الانتخابات. فقد رفضوا التصديق على فوز أحمدي نجاد دون إصدار أي إشارة تفيد بتفضيلهم موسوي، حيث حافظوا على ولائهم لتقليد الجيش النظامي العريق والمتعلق بالحياد السياسي.

ربما تكون ظاهرة بدء «الأبكم الكبير» في الحديث حول أي من القضايا للمرة الأولى هي إحدى العلامات التي تشير إلى أن نظام الخميني بدء يتراجع ببطء، ولكن بثبات في الوقت ذاته.

وربما يشير ذلك إلى أن الجعفري والموالين له في الحرس الثوري ربما يجدون صعوبة في المشاركة في صناعة السياسة تحت قيادة خامنئي وأحمدي نجاد.

وربما يحتاج خامنئي في أحد الأيام أن يحميه الجيش النظامي من الحرس الثوري أو الوحش الأشبه بفرانكشتاين والذي خلقه الخوميني.