الفلسطينيون والخروج من الأوهام

TT

لا يكاد المرء يصدق ما خرج به تنظيم الجهاد الإسلامي، ثم ما أقبلت حركة حماس على ترداده والمبالغة فيه: لا إقبال على المصالحة التي كان مقررا أن توقع في القاهرة (بين فتح وحماس بشكل رئيسي)، لأن السلطة الفلسطينية وافقت في اجتماع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على تأجيل مناقشة التقرير الشهير بتقرير غولدستون (المتعلق بحرب إسرائيل على غزة أواخر العام 2008). وحجة الجهاد وحماس أن السلطة بموافقتها تلك فرطت في حقوق الشعب الفلسطيني وأرواح أبنائه. وأول ما يمكن أن يقال في هذا الصدد أنه لو كان الحرص على حقوق الشعب الفلسطيني هو رائد الجهاد وحماس، لسارعوا الآن بالذات إلى مصالحة فتح والسلطة، لمنعهما من الإساءة إلى حقوق الشعب الفلسطيني؛ من طريق التأثير عليهما من الداخل في حكومة الوحدة الوطنية، وفي مجالس ولجان منظمة التحرير، والتي من المفروض أن تنضم حماس، وينضم الجهاد إليهما إذا حصلت المصالحة العتيدة!

والواقع أن مصر «تحتال» نعم تحتال! إذا صح التعبير، على كل من السلطة وحماس منذ أكثر من عام، ومن قبل حرب غزة بمدة، لكي تدفعهما للتصالح إيقافا للاقتتال والتشرذم، وتوسلا لإعادة إعمار غزة، وإنقاذا للقضية الفلسطينية من أبنائها قبل أعدائها! وفي كل مرة كان الحماسيون (وأحيانا الفتحاويون) يجدون حجة وعذرا للتأجيل في اللحظة الأخيرة، فتعيد مصر الكرة، وتعرض صيغة أخرى يتظاهر أحد الطرفين بقبولها، فيرفضها الطرف الآخر، وتعود الشتائم والاتهامات على الإعلام، ومن هنا وهناك! وفي حين كان واضحا في كل مرة أنه إذا جاء الرفض من فتح والسلطة؛ فلخوفهما من أن يؤثر هذا البند أو ذاك في اتفاق المصالحة المفترض، على احتمالات العودة إلى التفاوض برعاية الولايات المتحدة. أما إذا جاء الرفض من حماس (وغالبا ما كان الأمر كذلك)؛ فلخوفها من أن يؤثر ذلك على سيطرتها في قطاع غزة، ولأن الأطراف الإقليمية (إيران وسورية) لا تريان مصلحة لهما في التصالح الفلسطيني! هذه المرة اعتقدت مصر أنها أحكمت «الحصار» على الذين تريد قودهم إلى الجنة بالسلاسل. فقد استجاب النص المصري لأكثر مطالب حماس، وبدأت العلاقات السورية/المصرية بالتحسن بوساطة سعودية. ولذلك اضطر الطرفان الفلسطينيان للقول إنهما ذاهبان في 15/10/2009 إلى القاهرة لتوقيع الاتفاق. ثم أعلن تقرير غولدستون عن حرب إسرائيل على غزة. والتقرير يتهم إسرائيل بجرائم حرب، ويتهم حماس بتصرفات مسيئة قبل الحرب وأثناءها. ولذلك كانت ردة فعل حماس الأولى رفض التقرير، واتهام رئيس اللجنة بأنه يهودي صهيوني. وعندما انعقد مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة للنظر في التقرير، ما أمكن جمع أصوات 24 دولة (من 47) للتمكين من مناقشته. ولذلك ارتأت جهات عربية ودولية تأجيل مناقشة التقرير لعدة أشهر، رجاء التمكن من جمع الأصوات الكافية لمناقشة التقرير وإقراره. ويبدو أن السلطة الفلسطينية اقتنعت بهذه الحجج، فلم تعترض على التأجيل (وهي ليست عضوا، بل تحضر بصفة مراقب، لكن أنصار القضية الفلسطينية يستشيرونها بالطبع). وكانت تلك قاصمة الظهر. فقد هيجت وسائل الإعلام كل فئات الشعب الفلسطيني على التأجيل واتهمت سلطة أبو مازن بالتسبب في ذلك، وزاد الطين بلة إقبال وسائل الإعلام الإسرائيلية على اعتبار التأجيل انتصارا لنتنياهو على محمود عباس، بعد انتصاره عليه في نيويورك، حين رفض في اجتماعهما (هو وعباس) مع أوباما وقف الاستيطان، شرطا لبدء التفاوض. في ذلك الوقت بالذات (أي مطلع شهر أكتوبر الحالي) كانت إيران قد بدأت مفاوضاتها مع الغرب حول النووي، وسط تصعيد شديد عليها لاكتشاف مؤسستها الجديدة للتخصيب على مقربة من قم. واضطرت إيران لتقديم تنازلات في بدء المفاوضات تتصل بإجراء بعض التخصيب في روسيا، وهو ما سبق لإيران أن رفضته منذ أكثر من سنتين. في موازاة ذلك عادت إيران لإبراز أوراقها في المنطقة العربية بتهييج العراق على سورية، ومنع تشكيل الحكومة اللبنانية، والطلب من حماس أن تؤجل المصالحة من جديد. ولأن حماس كانت قد تورطت ورفضت التقرير بسبب ذكرها فيه، كما أنها كانت قد وافقت على المصالحة؛ فقد جرى هذه المرة استخدام تنظيم الجهاد الإسلامي للرفض في مزايدة على حماس. وعندما بدا أن حماس لا تزال مترددة في الرفض؛ وإن بدأت المشاركة في الحملة على فتح والسلطة؛ مضى الجهاد الإسلامي باتجاه إطلاق صواريخ على إسرائيل، بحجة أنه سبق لها أن قتلت ثلاثة من الجهاد قبل أسبوعين. وهكذا اضطرت حماس إلى الاستنفار: الاستنفار ضد الجهاد لمنعه من إطلاق الصواريخ، والاستنفار ضد تأجيل تقرير غولدستون، وتحميل عباس المسؤولية، والطلب من مصر تأجيل اتفاق المصالحة!

وما أحسنت السلطة الفلسطينية تنسيق ردود أفعالها في مواجهة هذه المتغيرات. في البداية قال متحدثو السلطة إنه لا دخل لهم في تأجيل التقرير، لأن السلطة ليست عضوا في مجلس حقوق الإنسان. ثم قال بعضهم إن العرب الأعضاء في المجلس قرروا التأجيل للتمكن من جمع الأصوات. ثم قال ياسر عبد ربه إن السلطة أخطأت بالموافقة، وهي قد رجعت عن الخطأ؛ في حين قال أبو مازن إنه شكل لجنة تحقيق للنظر في المسؤوليات. وحدث ذلك كله خلال أسابيع، وسط الهجوم الضاري من وسائل الإعلام، ومن سائر فئات الشعب الفلسطيني. ثم كان مؤتمر للتضامن مع الجولان (في الجولان!) تحدث فيه الجميع وعلى رأسهم خالد مشعل ضد تأجيل التقرير، وضد محمود عباس!

إن القصة كلها من جانب السلطة الفلسطينية سوء تقدير، وقلة شجاعة. ومن جانب حماس والجهاد خضوع للضغوط الخارجية التي لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية ولا بالمصالح الفلسطينية. فإيران لن تبقى لا للجهاد ولا لحماس؛ في حين أن مصر هي الباقية. ولو لم يكن هناك سبب للمصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية غير الاستجابة لمصر، لكان ينبغي أن تحصل ومنذ مدة. فكيف، والقضية الفلسطينية كلها تمر بمرحلة دقيقة ودقيقة جدا، والفلسطينيون والعرب محتاجون خلال هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر للتوحد والتنسيق والتوجه الواحد. فبعد تسعة أشهر من الرحلات المكوكية من جانب جورج ميتشل مبعوث الرئيس أوباما، إلى الشرق الأوسط، تكاد الاتصالات تتوقف وتتجمد، أمام إصرار نتنياهو على عدم وقف الاستيطان، وإصراره على عدم الالتزام في التفاوض بخارطة الطريق، ومسائل الحل النهائي. وتشعر السلطة الفلسطينية بالاستضعاف والابتزاز. فقد راهنت كثيرا على أوباما وعلى التفاوض. وكادت توافق على بدء التفاوض بدون وقف الاستيطان! ولولا الضجة التي أثيرت حول لقاء أبو مازن بنتنياهو، ثم الضجة التي أثيرت بشأن تأجيل تقرير غولدتسون، لما توقف اندفاع السلطة الفلسطينية بذاك الاتجاه، خشية فوات الفرصة، أو تثبيط همة أوباما وجورج ميتشل. وزاد الأمر غصة ومشكلاتٍ الاحتفالية الدائمة من جانب السياسيين الإسرائيليين ووسائل الإعلام بانتصارات نتنياهو المستمرة على الفلسطينيين والعرب جميعا!

ما العمل الآن؟ هناك مشكلتان راهنتان وملحاحتان: مشكلة الانقسام الفلسطيني، ومشكلة العجز الأميركي عن إرغام إسرائيل على التفاوض لإقامة الدولة الفلسطينية عام 2012. والعرب يملكون أمرين: دفع الفلسطينيين للاتفاق، والتنسيق فيما بينهم بشأن مستقبل العلاقات مع الإدارة الأميركية بشأن فلسطين. وفي الأمر الأول، لا يمكن أن يوافق أحد على تأجيل المصالحة مهما كلف الأمر، وعلى حماس أن توقن أنها لن تجد ملاذا ولا غطاء عربيا في توقفها عن المصالحة مع فتح. ثم إن على العرب (وبخاصة السعودية ومصر وسورية والأردن) أن ينظروا عاجلا في مبادرة السلام العربية، وفي الخطط البديلة إذا تعذر حتى آخِر العام حصول اختراق في مسألة التفاوض على قضايا الحل النهائي. فالحد الأدنى في حالتنا الصعبة: إرغام حماس على مصالحة فتح والسلطة، وعدم دخول السلطة في التفاوض مع إسرائيل (وإن بضمانة أميركية)، قبل وقف الاستيطان، والموافقة على التفاوض بحسب خارطة الطريق. أما الحد الأعلى فالالتفات من جانب أطراف التنسيق العربي إلى المستقبل القريب بعيون ناقدة وملتزمة في الوقت نفسه. فالرئيس أوباما الحاصل على جائزة نوبل للسلام مؤخرا صديقنا، لكن القدس والأقصى أحب إلينا منه. ومن لم يتابع حمل نعجته، تلد شيئا آخر، أو يتبين أن الحمل مزور!