دياليكتيكية الهجوم بالحذاء «النايك» في اسطنبول

TT

ما هي الأبعاد السياسية والتاريخية والرسائل الإنسانية التي يحملها حذاء الـ«نايك» الذي رماه أحد الإعلاميين الأتراك في وجه الأمين العام لصندوق النقد الدولي دومينيك شتراوس، خلال محاضرة له على هامش اجتماعات الصندوق والبنك الدولييين السنوية المشتركة في اسطنبول أخيرا؟ من الذي خطط وحرض وأمر بتنفيذ هذه المؤامرة الموصوفة بـ«النايك» سيستية الماركسيستية وأشرف عليها؟

رغم أن الفاعل يصر على أنه أقدم على فعلته بهدف توجيه رسائل إلى أصحاب القوى الرأسمالية والإمبريالية في العالم، فإن معظم المتابعين للحدث ركزوا اهتمامهم على الحذاء المستخدم ومواصفات هذا «السلاح» وماركته ومكان صنعه أكثر من متابعة أسباب الهجوم وأبعاده وغايته.

حذاء اصطدم في منتصف الطريق برأس أحد الجالسين فسقط على الأرض مخيبا آمال مطلقه ومحطما حلمه في أن يكون «الزيدي الثاني». دعوات ساخرة للكثير من الكتاب والخبراء وتحليلات يومية تناقش الحادثة التي أساءت إلى سمعة الأتراك في التصويب والرماية قبل أن تسيء إلى سمعة مطلقها سلجوق أوزبك العضو الفاعل في حزب الحرية والديمقراطية اليساري المتشدد والمتدرج في الصحافة، حيث يعمل في إحدى الصحف اليسارية اليومية، مما حدا ببعض الخبثاء للمطالبة بالمزيد من التدريبات والتمارين قبل الإقدام على مثل هذه المغامرة من دون إهمال نوعية الحذاء والتنبه إلى ضرورة أن يكون من صناعة وطنية.

رغم إصرار كبار القياديين في «العدالة والتنمية» وكبار المسؤولين العاملين في صندوق النقد على ألا مؤامرة تحاك وألا وصفات يحاول شتراوس التوصية بها أو فرضها على الأتراك، وأن أرقام النمو الاقتصادي في البلاد في تحسن وارتفاع دائم بشكل ينافس الكثير من العواصم الأوروبية الغنية، فإن الدروس والعبر الواجب أخذها مقابل هتافات «لا نريد صندوق النقد بيننا ليذهب هذا اللص إلى الجحيم»، وتصعيد الاعتراض والرفض إلى درجة تحويل الحذاء الرياضي هذا ـ بعيدا عن أية روح رياضية ـ إلى سلاح يستهدف شتراوس، هي أن الأخير لم يكتف برفض تقديم أية شكوى قضائية ضد الفاعل بل شكره على لباقته وتهذيبه كونه انتظر حتى الانتهاء من حديثه ليعبر عن رأيه بهذه الطريقة.

بعض أصحاب الرأي يطرح مسألة التقليد والتجديد في فن الرشق بالأحذية ويردد أنه لا يليق بالأتراك الذين أبدعوا في الدفاع عن الكثير من المسائل الإقليمية والدولية التي تعني دول المنطقة في السنوات الأخيرة اللجوء إلى عيار خفيف من هذا النوع المستورد لوضعه بين يدي أحد الهواة لينفذ عملية فاشلة من هذا النوع.

البعض الآخر يحمل المسؤولية لليسار التركي المفكك المتراجع المستسلم لقدره والذي يحاول التقاط أنفاسه من خلال عمليات من هذا النوع قد تعيد له بعض الاعتبار والرصيد السياسي الذي فقده في السنوات الأخيرة، لكنه يقول أيضا إنه كان الأجدى به (أي اليسار) اللجوء إلى ابتكارات ووسائل تعبير أكثر حداثة وتأثيرا إذا ما كان يريد فعلا إعلان رفضه لسياسات الحكومة والبنك الدولي.

مجموعة من الإعلاميين القدماء في تركيا أبدت انزعاجها من الصعود السريع لبعض المتدرجين على هذا النحو فهم يكتفون باقتناص مثل هذه الفرص ليأخذوا موقعهم في قلب الحدث من خلال هذه الأساليب الرخيصة، بينما يمضون هم عشرات السنين بانتظار دورهم خلال تسلق درجات سلم المهنة.

ينبغي حتما إنصاف الصحافي التركي أوزبك عندما نتحدث عن فشله الذريع هذا بإصابة أحد الحضور من الخلف، فهو كان يصوب من مسافة تزيد على العشرين مترا، بينما الصحافي العراقي الزيدي كان ينفذ عمليته عن بعد 5 أو 6 أمتار لا أكثر وأن الصحافي التركي اكتفى بإطلاق فردة حذاء واحدة نحو شتراوس بينما لم يتردد زميله العراقي في إطلاق الفردتين بأداء مميز، يؤكد أن الأول جاء إلى المكان دون أي تمارين مسبقة فيما الثاني أبدى براعة فائقة في تنفيذ مهمته.

لكننا لا بد أن نتذكر نتيجة الفارق بين الرجلين، حيث أمضى التركي ليلته في منزله بعد إفادة شكلية في مركز الشرطة فيما دفع الأخير ثمن فعلته المكوث في السجن لمدة 9 أشهر كاملة.

شكرا لشتراوس الذي تعامل معنا بتسامح ورحابة صدر وهو اليساري القديم الذي يعرف حتما أنه لبعض الأتراك أساليبهم في الرفض والتحدي والتصعيد، خصوصا في التعامل مع مسائل لها علاقة بالمال أو رأس المال أو مؤسساته تماما كما فعل قبل أيام أحد المواطنين الذي صعب عليه استرداد بطاقته من جهاز السحب الآلي فسارع إلى شراء قفل وجنزير وإغلاق الباب الزجاجي وترك رقم هاتفه في المكان لمن يهمه الأمر.

* كاتب واكاديمي تركي