لبنان ... وسط تعدّد القراءات

TT

صح في لبنان هذه الأيام قول ابي خراش الهذلي:
تكاثــرت الظبــاء على خراشٍ فما يـدري خــراشٌ مــا يصيــدُ فالجميع يفتي في السياسة، والجميع يلهو بالسياسة، والجميع يناور ويشاغب ويحارب ويلغي باسم السياسة.... حتى اولئك المفروض انهم لا يمارسون ـ ولا يجوز لهم ان يمارسوا ـ ما وصفها الطيب الذكر افلاطون بـ«اشرف المهن».

مع متابعة وسائل الاعلام اللبنانية وامتداداتها و«تسرّباتها» العربية يتبين ان وضع لبنان خرج من وصف «الحوار الصعب» ليستحق عن جدارة وصف «الحوار المستحيل». ولئن كان من السهل تسمية المفصل ـ الظاهري ـ الذي تفجّرت عنده احدث الأزمات، فمن الصعوبة بمكان إقناع العقلاء بأن ما حصل يشكل مفصلاً او معلماً منفصلاً في شريط الصراع الطائفي والسياسي عبر تاريخ ما تبلور عام 1920 بلبنان الحديث. والواقع ان في لبنان اليوم مجموعة من العقول ـ داخل كل الطوائف ـ التي تفهم تماماً حقيقة الأمور. غير انها بطبيعة الحال مسيّسة، وبالتالي لا تخرج اجتهاداتها عن دائرة المصلحة الايديولوجية والطائفية. ولكن، بعيداً عن الخوض في قاموس المفردات المتطايرة حالياً بفعل ما حصل خلال الاسابيع القليلة الفائتة في لبنان، يحسن بمن يسعى الى تحليل الوضع بجدية وعمق، ان يسأل ويتساءل، ويشكك، ومن ثم يحدّد الحقائق المحوريّة.

الحقيقة الأولى: ان معظم اهل السياسة ـ ومنظّري السياسة ـ في لبنان ما زالوا أسرى مصالحهم الطائفية. وهم اليوم، باستثناء قلة يسارية قليلة انتفضت منذ فترة طويلة ضد مواقعها الطائفية، اكثر التصاقاً بمواقعهم الطائفية وأوثق ارتباطاً بحساباتها، بعكس الكلام الشائع في اوساط العامة... عبر وسائل الاعلام.

الحقيقة الثانية: ان التغيّرات الديموغرافية التي شهدها لبنان منذ 1920 تركت مؤثرات بالغة الاهمية على نسيجه الاجتماعي ـ الاقتصادي. وبالتالي اسهمت في تبديل اولويات وتعديل قناعات وتوليد مؤسسات وتيارات وتحالفات وكتل مصلحية و.. تأجيل ـ او نقديم موعد ـ مبادرات. وتسببت كل هذه الحصيلة بسلسلة التطورات السيئة التي عاشها وما زال يعيشها لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية في مطلع التسعينات.

الحقيقة الثالثة: ان «المكان» عنصر خطير في حياة لبنان. فلبنان «اسير» للجغرافيا مثلما هو رهينة للتاريخ. وعبثاً يستخف المتجاهلون بالأهمية الهائلة للعاملين الجغرافي والتاريخي في صيرورة الكيان الصغير (بحدوده المطاطية) وسيرته. الحقيقة الرابعة: ان جميع اللاعبين اللبنانيين، افراداً وجماعات، احزاباً وطوائف، راهنوا وما زالوا على عنصر «الزمن»، ومارسوا بصورة انتحارية احياناً اسلوب «المضاربة» على عنصر مرور الزمن وتبدّل المعطيات والظروف. وعند تحليل هذه الحقائق الاربع بعمق، يصبح متسيراً فهم خلفيات التقاليد «التأزيمية» للسياسة اللبنانية، حيث لا غنى عن غالب ومغلوب، مع ان الكل ينادي ـ كذباً ـ بـ«لاغالب ولا مغلوب». وحيث لا تطابق بين القول والفعل، وبين الظاهر والباطن. ولا صلة بين الفعل والفاعل، ولا ولاء للوطن ولا إدراك للمواطنية، ولا حدود بين المناكفة والقناعة، وبين التكتيك والاستراتيجية.

وللننظر الى مفهوم الوفاق، مثلاً ...

اللبنانيون اليوم بحاجة الى «توافق» وفاقي على معنى «الوفاق»!! وبخاصة ان ثمة فريقاً كان يعارض «اتفاق الطائف» نراه يطالب الآن بتطبيقه بحذافيره، وفريقاً آخر يزعم انه يدعم ذلك الاتفاق يتباهى انصاره بانقلابه عليه ...

لننظر الى فكرة فصل السلطات، وطبيعة النظام السياسي أهو رئاسي ام برلماني؟ أهو ائتلافي او «محاصصي» (من حصص ومحاصصة)؟ لننظر الى مفهومي استقلالية القضاء وسيادة مؤسسات النظام المدني...

كلها كلام في كلام. وزيف هذا الكلام ينكشف عند اول احتكاك.

خلال الاسبوعين الماضيين، راجت دعوات لرفض الجنوح نحو «العسكرة» و«الدولة الأمنية الاستخباراتية [لا أدري من اين اخترعوا كلمة مخابراتية!]»، قبل ان تظلل الجدل الدائر في الساحة تهم التعامل مع إسرائيل. ولكن من يعرف لبنان وتاريخه يعرف ايضاً ان «العسكرة» الرسمية عبر الجيش، والخاصة عبر الميليشيات جزء لا يتجزأ من تراث البلد. وعندما رشّح الرئيس اميل لحّود لم يقف سوى قطب سياسي واحد معارضاً ترشيحه خشية «العسكرة»! ثم بما يخصّ التعامل مع إسرائيل، هذا التعامل ليس ابن البارحة ... فشخصيات سياسية واجتماعية ودينية مرموقة ساهمت في تهريب اليهود المهاجرين الى فلسطين، عبر الحدود اللبنانية الفلسطينية، قبل اعلان الدولة العبرية...

ثم ان بعض الشخصيات والاعلامية والحزبية اللبنانية التي تتشدّق اليوم بالعروبة مزايدة على غلاة القوميين العرب... في سيرتها الذاتية والحزبية روائح تعامل و«هندسة» علاقات مشبوهة لم ولا ولن يخفيها الكلام المنمق والنفاق المكشوف. واذا كانت هناك مصالح سياسية متقاطعة تحول الآن دون فتح كل الملفات، تصبح مسألة الفضح والملاحقة مسألة اسنتساب وانتقاء وتسديد فواتير ...

وفي نهاية المطاف المنطق يقول اما هناك وفاق، او ان هذا الوفاق لم يتحقق ...وهنا لا وجود لـ«منزلة بين المنزلتين». واستطراداً، إما هناك ما درج البعض على وصفه بـ«عفا الله عما مضى» ـ كما قيل بعد «الطائف» وتكرر قوله بعد الجلاء الاسرائيلي عن الجنوب اللبناني ـ بفتح صفحة جديدة بعد انتهاء الحرب او ان الحرب باقية ومفتوحة لتصفية كل الجيوب الاسرائيلية المستترة في البلد.

واما ان هناك معانٍي واضحة وثوابت قاطعة للوفاق... او ان الوفاق نحّي عن الاولويات لمصلحة قضايا اخرى اكثر اهمية في هذه المرحلة! تقول اوساط مقربة من زيد او عمرو ان الصراع بين الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة) أكذوبة لا أساس لها من الصحة، و«لا منتصر ولا مهزوم» من تناهش السلطات والصلاحيات. وفجأة يطل من يقول، بل هذا انتصر... وذلك ذلّ. والمؤسسة الفلانية انتهت الى غير رجعة. والشيء الأكيد ان «لبنان النظام» في وضع اسوأ بكثير مما يظن المواطن. والطبقة السياسية فقدت آخر بقية باقية لها من احترامه. والخوف كل الخوف الآن ان تسري عدوى فقدان الثقة والاحترام الى المؤسسات الاخرى التي يفترض انها فوق الحزبيات والعصبيات والكيدية.

ولكن هل المواطن برئ إزاء هذا الحال؟

لا ...ابداً، فالوجه الوحيد الباقي من الديمقراطية اللبنانية المشوهة ان المواطن كما زال عاجزاً عن الموالاة وعاجزاً عن المعارضة، وبالتالي ضعيفاً امام اي قوة تخطف الشعارات وتمارس التجاوزات باسمه.