سنوات في مصر 15 : برفقة جمال عبد الناصر إلى سوريا! ثم حديث عن الصحافة والصحافيين!

TT

لعل احلى واغلى رحلة صحفية قمت بها على مدى الخمسين سنة من عملي الصحفي الطويل الذي انتشر ووصل الى معظم بقاع العالم، كانت بالتحديد، رحلتي في ركاب جمال عبد الناصر في اول زيارة قام بها الرئيس المصري لمختلف المدن السورية بعد مولد الوحدة.

ولعل احب رفيق كان معنا في تلك الرحلة، هو زميلي العزيز احمد بهاء الدين. ويحلو لي، قبل ان اسرد انطباعي عن تلك الرحلة، ان اترك العزيز احمد بهاء الدين، يروي بقلمه الرشيق بعض تفاصيل الرحلة كما اوردها في كتابه الصادر عن «دار الهلال» المصرية في عام 1987، بعنوان «محاوراتي مع السادات».

قال بهاء ان جمال عبد الناصر، كان يهاجم الصحفيين المصريين الذين تجاهلوا موضوع السفر الى سوريا مكتفين بالجلوس في مكاتبهم المكيفة. وقال مستطردا:

«.. وهاج جمال عبد الناصر وماج وهاجم بشدة رؤساء تحرير الصحف والمجلات المصرية الجالسين في مكاتبهم المكيفة، والذين لم يفكر واحد منهم في ان يذهب في أي وقت وفي أي مناسبة الى سوريا، وكان على وشك السفر في تلك الرحلة الى سوريا واصدر تعليمات حاسمة الى كل رؤساء التحرير في مصر بأن يسبقوه في طائرة حربية الى اللاذقية، التي كان سيذهب اليها في اليخت «الحرية» عن طريق البحر، ولم تكن رحلة عادية الى دمشق او حلب، ولكنها كانت رحلة شاقة قرر ان يبدأ بها من ميناء اللاذقية ويطوف فيها انحاء سوريا الى حمص وحماة وحلب وجبل العرب (جبل الدروز) والى دير الزور والحسكة والبوكمال، اي واصلا الى اقصى الشمال السوري ملاصقا الحدود التركية واقصى الشرق ملاصقا الحدود العراقية، ايام كانت الحدود التركية والسورية مشدودة الاعصاب وايام كانت الخلافات مع عبد الكريم قاسم في العراق في قمتها.

... وركبنا الطائرة جميعا من مطار اللاذقية، وعندما ادرك رؤساء التحرير بأعمارهم المختلفة وامزجتهم المتباينة هول مشقة السفر الى مناطق ليس فيها اي تسهيلات، بدأوا يتساقطون تدريجيا.

... عاد مصطفى امين واحسان عبد القدوس من اللاذقية بالطائرة بعد يوم او يومين، وفي حلب استغاث كامل الشناوي بمن ينقله بالطائرة الى دمشق، حيث ينتظرنا هناك بعد ان تتم الجولة الشاقة، ولم يصمد إلا محمد حسنين هيكل، وناصر الدين النشاشيبي، والمرحوم مصطفى المستكاوي، وانا.

... وقد كانت حقا رحلة شاقة، كان استقبال الشعب لجمال عبد الناصر كالعادة اسطوريا، بل اكثر من كل مرة، فقد ذهب الى مناطق قال لنا اهلها انه لم يسبق ان زارها «وكيل وزارة» من دمشق العاصمة، وكانت التسهيلات في بعض تلك المدن التي لم يدخلها مسؤول واحد معدومة تماما. لم تكن هناك ببساطة اماكن لرئيس الجمهورية العربية المتحدة وصحبه من الوزراء والصحفيين المصريين والسوريين لا للمبيت ولا للمأكل ولا اي شيء على الاطلاق.

«... في دير الزور، مثلا، كان هناك بالمصادفة مبنى جديد لم يستعمل بعد لمكتب بريد. وبتنا جميعا في مكتب البريد، بات جمال عبد الناصر في غرفة في الدور الثاني من المبنى لعلها حجرة مكتب مدير البريد. وفي الدور الارضي الذي يفصله عن الشارع حاجز زجاجي فقط غطوا الزجاج بالبطاطين ورصّوا اسرة من القوات المسلحة ونمنا جميعا وزراء وجنرالات وصحفيين. وكان الناس في مثل هذه الظروف يأتون متبرعين بالسراير والمراتب والاغطية التي سيستعملها جمال عبد الناصر وصحبه.

... وفي الحسكة، مثلا، وزّعونا على الشقق الصغيرة البسيطة جدا التي تسابق سكانها على التبرع بها ليبيت فيها القادمون ليلة او ليلتين... وفي شقة ليس فيها اي وسائل راحة من حجرة ومدخل، بتنا نحن الصحفيين المصريين، ناصر الدين النشاشيبي ومصطفى المستكاوي في الحجرة ومحمد حسنين هيكل وانا في المدخل ... كذلك كان برنامج الرحلة قاسيا وعنيفا جدا، بالنسبة لنا نحن المدنيين على الاقل. فقد ركبنا كل وسائل المواصلات وكان اقساها احيانا «الهليكوبترات العسكرية» الحديدية في ذلك الوقت التي لا توجد فيها «شلتة واحدة».

... فكان ناصر النشاشيبي مثلا ينام على بطنه على ارض الهليكوبتر ويضع فمه على فتحة الهواء ويتقيأ طوال الرحلة وكل منا يصيبه ألم من نوع او آخر. ومواعيد التحرك اغلبها في الفجر المبكر لكي نلحق بالرحلة. وفي كل مدينة وقرية يخطب جمال عبد الناصر في آلاف الجماهير بلا تعب.

... وللسوريين طريقة جميلة في الترحيب: يعلقون كل سجاجيد مساكنهم على النوافذ والشرفات فتعطي الترحيب شكلا فنيا وشخصيا فاتنا. ولا انسى منظر دخولنا حلب، المدينة الكبرى الفائقة الجمال في الشمال، والطريق اليها يمر بجبل رملي احمر اللون ومفاجأتنا عندما وجدنا سفح الجبل كله مغطى بمئات السجاجيد والأكلمة. وسألنا وعرفنا لدهشنا ان الناس جاءوا بها ووضعوها هكذا غير خائفين من ضياعها، حفاوة وترحيبا».

«... عرفت محمد حسنين هيكل في تلك الرحلة وتوثقت علاقتي به خلال تلك الظروف وكنا نجد دائما ما نتحدث فيه معا واينما كنا، وبعد ان ينتهي كل عذاب اليوم، ونأوي الى فراشنا حيثما كان آملا في بعض النوم قبل التحرك مع الصباح الباكر يأتي رسول من حيث يكون جمال عبد الناصر يأخذ هيكل ليسهر بقية الليل معه، وكان بعضنا يتندر على ما يثيره ذلك من حنق وغضب لدى كثيرين، رسميين وصحفيين».

... بس... فقط لا غير...! وانا اضيف الى كلام زميلي احمد بهاء الدين، عن تلك الرحلة بأنها رغم قساوتها وظروفها الصعبة والتنقل بين مختلف مدن سوريا وقراها وحدودها مع النوم على فراش رفيع بسيط فوق ارض باردة من الاسمنت، والوقوف لمدة ساعات طويلة تحت سقوط الثلوج للاستماع الى خطب الرئيس عبد الناصر، وهو يخطب من شرفة بلدية حلب.

اقول رغم كل ذلك، فقد كانت رحلة شيقة.. وبلا حدود! رغم ان المشير عامر، اراد ان يسكب «النكد» فوق رأس زميلنا كامل الشناوي، حيث خاطبه بعبارات قاسية قال له فيها ان «مثل تلك الرحلة لا تعجبك.. فتهرّب منها.. لأنك متعود على سهرات هيلتون..». واصيب الزميل بصاعقة عصبية كادت تقضي عليه لولا تدخل هيكل الذي نقل الخبر للرئيس الذي امر بتسوية الموضوع.

ولعل نقطة القمة في تلك الرحلة، عندما وصل موكب عبد الناصر الى حدود الجولان السورية، ودخلنا في الخنادق المسلحة المطلة على ارض فلسطين.. وسهول حطين.. وبحيرة طبريا، وسمعت صوت عبد الناصر يأمرني بالاقتراب منه في الخندق قائلا لي:

«تعال يا ناصر لكي تشاهد ارض وطنك!».

ومن طرائف الرحلة، اذ كان فيها معنا، الزميل مصطفى المستكاوي، رئيس تحرير جريدة «المساء» اليومية. وقد انضم الينا رغم مرضه بالقلب.

وكان المرحوم مصطفى المستكاوي، رئيس تحرير «المساء» الصادرة عن دار «التحرير»، يميل الى الاعتقاد بأنه لا يقل قربا من جمال عبد الناصر عن اي فرد من اعضاء مجلس قيادة الثورة، وان «هيكل» لا يمتاز عنه إلا كونه يرأس تحرير «الاهرام» بينما المستكاوي يرأس تحرير جريدة «مسائية».

وقد تسنى لهيكل ان يهمس في اذن المستكاوي بضرورة «الاختصار» او «الاقتصاد» المطلوب في اجراء الاتصالات التليفونية مع جريدته في مصر، وان لا يقتصر هذا الاقتصاد على عنصر الوقت وحده، بل يجب ان يشمل ايضا ما يجب ان يقال، وما يجب ان لا «يقال» في التليفونات! وعندما سأل المستكاوي عن السبب، اجابه هيكل، لأن الموقف دقيق، والحالة تتطلب المراعاة لأحاسيس الناس.

وعندما حاول المستكاوي ان ينفذ نصيحة زميله هيكل لم يستطع، ولم ينجح، ولم يساعده قلبه.

ففي ذلك المساء بالذات عندما بدأ المستكاوي يملي رسالته الصحفية المتضمنة اخبار زيارة الرئيس لدمشق، لم ينس ان يضيف اليها خبرا خاصا يقول فيه بأن الرئيس تلطف وسأل المستكاوي عن صحته..!! وسمعناه يقول للمحرر في القاهرة بصوت عالٍ:

... وعندما انتهى الرئيس من القاء خطابه الطويل على بحر من الجماهير المحتشدة في ساحة وفد الجمهورية، لمحني واقفا خلفه فبادر على الفور وسألني بحنان الاب او الاخ الكبير:

ـ ازيك يا مصطفى؟! وأجبته: ربنا يخليك يا ريس.! ولطمنا خدودنا.! واستمر المستكاوي في املاء رسالته الى جريدته في القاهرة.. دون اي اكتراث وبكل هدوء وسعادة! وحقيقة أخرى يجب ان اذكرها في هذا المجال، وهي ان جميع الزملاء الصحفيين الذين رافقوا الرئيس عبد الناصر في تلك الرحلة التاريخية قد اصيبوا اما بـ«الاسهال»، او بنزلة برد على الصدر، او بانتفاخ في المصران الغليظ، او بالاكتئاب والحزن، عدا هيكل وكاتب هذه السطور.

لقد عاد «بهاء» بعد ايام على اول طائرة الى القاهرة يشكو من تقلصات في دقات القلب..!.

وسألني عبد اللطيف البغدادي في خبث عندما رآني اركض واتكلم واشاهد ولا استريح ولا الزم الفراش:

ـ انت لسه «ماجالكشي» اي مرض زي زملائك؟! وسمعني اقرأ «قل اعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق اذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد اذا حسد». صدق الله العظيم.

وفي مساء الليلة الثانية من وصولنا الى دمشق اقام شكري القوتلي ـ الذي كان رئيسا للجمهورية ثم اصبح «المواطن العربي الاول» ـ وهو التعبير الذي كان للزميل هيكل فضل اكتشافه، حفل عشاء تكريما لعبد الناصر. والقى فيه خطابا مجلجلا لم تنشره الصحف ولم يقرأه الناس ...ذلك لأن القوتلي قد بدأ خطابه وانهى خطابه بالدعاء الى الله ان يساعد عبد الناصر على حكم سوريا.. والسوريين. وكان يصرخ بأعلى صوته مخاطبا الرئيس المصري: «كان الله في عونك يا سيادة الرئيس.. كان الله في عونك على هذا الشعب..!».

وكان البعض يفهم.. ويبتسم! وكان البعض الآخر يسمع ويكتئب.

وكان الله في عون عبد الناصر على سوريا، وفي عون سوريا والعرب على عبد الناصر.. وعلى صحافة عبد الناصر! واعود الى «رحلة العمر» مع عبد الناصر الى المدن السورية، واقول ان معظم احاديثنا المشتركة مع بهاء وكامل واولاد امين ـ وحتى مع هيكل ـ مع مرور الوقت لم تتعد الاخبار السيئة عن الصحافة المصرية في عهد الثورة ومدى ما اصاب رجال الصحافة في مصر من اهانات، وتقلبات، وضربات، وتنقلات! واترك مرة أخرى مهمة الحديث لصحفي مصري بارز، في وزن صديقي احمد بهاء الدين، لكي لا يتهمني احد بأني اتعمد ذلك ارضاء لنزعتي «الشامية» او الحرص على معاداة انور السادات.. بعد كل ما جاء في كامب دايفيد المشؤومة! وكان احمد بهاء الدين، لا ينطق عن هوى. وقد تحمل بسبب ثقافته، وكريم خلقه، من السادات ومن كبار رجال الصحافة في مصر، ما لا يتحمله بشر.

من جريدة الى جريدة، ومن منصب الى منصب، ومن عرض الى عرض! ثم: في الصفحة رقم 50 يقول بهاء في كتابه «حوارات مع السادات»:

«... ثم انني قد قرّرت منذ تركي رئاسة مجلس ادارة «دار الهلال» الا اتولى اي مسؤولية صحفية الا مسؤوليتي عن نفسي اي عن الكلام الذي اضع اسمي عليه بعد ان حفلت الصحافة بتيارات بالغة السوء، وصار كثيرون من مندوبي الصحف لدى جهات السلطة والحكومة مندوبين لجهات السلطة والحكومة لدى الصحف، وصار الصحفي لا يعمل لمستقبله من اجتهاده وعلاقاته داخل المؤسسة حسب الظروف (رئاسة الدولة او رئاسة الوزارة او وزارة الاعلام او اجهزة المخابرات والمباحث العامة والامن) يعني: اصبح الصحفي جاسوسا»..

«... انني ـ قلت للسادات ـ لا اريد من حيث المبدأ ان اكون رئيس تحرير اي جريدة او مجلة او رئيس مؤسسة صحفية.. وقال: وكان انور السادات يكره فيها المرحوم علي حمدي الجمّال كراهية شديدة دون معرفة شخصية ولا يطيق سماع اسمه.. وكان يسميه «ميمي بيه».

«... وعندما سألته ـ اي سألت السادات ـ عن احسان عبد القدوس قال: «... احسان «دلوعة».. وقد زاد دلعه اكثر من اللازم.. انه يريد مني ان اخوض له اصغر معاركه ولا يتحمل مسؤولياته بنفسه.. وانا في أيه والاّ في أيه.. سينقل احسان كاتبا في «الاهرام».. ان هذا يريحه فهو قد ترك السياسة واقعيا منذ زمن طويل وهو «يتمنع» دائما لأن المنصب الصحفي يضيع عليه كتابة القصص الغرامية التي «يبيعها للسينما!!».

ويقول بهاء:

ـ ذهبت الى «الاهرام» لمقابلة علي امين.. وكان في حالة ترقب هائلة واجلسني وطلب لي القهوة. وقد هدأ هذا الاستقبال من روعي، فلا بد انه يعرف مما يجعل مهمتي اسهل.. اذ كيف يسمع مني لأول مرة انني مكلف بالجلوس في مكانه وفي كرسيه!؟

وفي مكان آخر يقول بهاء:

«.. وقال مصطفى امين ان ما قرّره السادات هو «شلّوت» من السادات لعلي.. ومصطفى. فبعد الخلافات العنيفة في «الاهرام» وبعد الحملات عليك ـ يا علي ـ في صحف ومجلات أخرى، يجيء قرار السادات وكأنه حكم بفشلك في ادارة الاهرام بعد هيكل..».

واستطرد مصطفى أمين يقول مهاجما احسان عبد القدوس:

«.. ان السبب في هذا كله هو احسان عبد القدوس! فمنذ عودتي الى اخبار اليوم بعد خروجي من السجن والمظاهرة التي استقبلتني بها «اخبار اليوم»، واحسان عبد القدوس لا يطيق وجودي في الدار ..مع انه رئيس مجلس الادارة، وقد طلب محررو اخبار اليوم، والاخبار، اقامة حفل تكريم لي فرفض، وقال ان في هذا التكريم.. إهانة له. انه يتصور ـ يعني احسان ـ ان كل تحية لي عمل موجه ضده.انه يقول لكل من يقابله ان مصطفى أمين يوجه كل الدار ويحاول جعلي طرطورا ويلوم كل محرر يزورني في مكتبي..».

ثم ينتقل «بهاء» للحديث عن أحوال الصحافة بعد التأميم قائلا: «.. وبعد التأميم بالذات صار قرار من يكون هنا أو هناك ليس ملكاً للكفاءة ولا للمهنة ولا للقارئ ولا للمؤسسة الصحفية.. وكنت غائبا في الجزائر عندما صدر نقلي.. وقلت ان نقلي من جريدة يومية هي أوسع الجرائد انتشارا الى مجلات اسبوعية بالنسبة لكاتب سياسي كنقل مطرب من ميكرفون الاذاعة الى ميكرفون في سرادق..».

ويقول عن علاقة السادات بالصحفي هيكل:

«... بدأت أشعر بسرعة بأن الرئيس السادات يكره محمد حسنين هيكل أكثر مما تصوّرت أول الأمر.. وينتقده، ولم يكن هذا في الانتقادات التي يوجهها اليه والتي لم تخرج عن ان هيكل تعود ان يكون شريكا في الحكم أيام عبد الناصر، يشكل الوزارات، يصنع القرارات، في حين انه ـ أي السادات ـ لا يقبل ذلك. وانه على حرصه الشديد على الاستعانة بكفاءة هيكل الا انه حاول عبثا ان يجعل هيكل يعمل معه بشروطه، لا بشروط هيكل، ولكن هيكل تصور انه صار مركز قوة من نوع آخر غير قابل للعزل ...» «... ولم يكن شعوره المتزايد بالنقمة على هيكل شخصيا هو المشكلة، فقد حددت له موقفي، وقد كان يعرفه مسبقا من انني وهيكل صديقان على المستوى الشخصي والمهني والعائلي ايضا. وكان يقول انه يقدر ذلك تماما، وانتهى الأمر. كما انني تعودت الا أخوض معه أو مع غيره من أهل السلطة في أي حديث يتصل بشخص صحفي آخر. لأن أي حديث عن زميل في المهنة يسهل تفسيره على انه محاولة دسيسة أو محاولة اسداء خدمة. في حين انني لو تحدثت عن رئيس وزراء أو وزير مثلا فليس في الامر شبهة المنافسة المهنية. وبالمثل كان يعرف علاقاتي بعلي أمين الى آخره، ولكن المشكلة انني بدأت أشعر بأن نقمة السادات على هيكل قد تعدت شخص هيكل الى جريدة «الاهرام» ذاتها. كنت أشعر بأنه يكره جريدة «الاهرام» فعلا، وأحيانا كنت أشعر بأنه يتمنى لو أغلق عينيه وفتحهما فلا يجد «الاهرام»، الامر الذي جعلني ايام رئاسة علي أمين وأول أيام رئاستي اشعر بقلق جدي وخطير على المؤسسة لا أظن الى اليوم انه كان على غير أساس.

ثم يقول بهاء «... إنني أجرؤ على الاعتقاد بأنني ساهمت بدور كبير في حماية مؤسسة «الاهرام» قبل ان يبرد عداؤه لها ويحولها الى مصلحة بدلا من ان يدكها على رؤوس من فيها.

«... كان يشعر بأن «الاهرام» ما زالت وستظل «هيكلية» مهما حدث. وكنت أعرف ان اخبار زيارات بعض المحررين لهيكل تثيره جدا، وفي صحفنا، لا تخلو صحيفة على الاطلاق من «محررين نشطين» يعكفون على كتابة التقارير الى اصحاب السلطة مع اختلاف في المستويات: بداية ممن يرتفع مستواه على الكتابة الى المباحث. وهي كتابات اثرت كثيرا في حياة الصحافة والصحفيين وعلاقات المهنة بالسلطة.

«... ولا أشك في انه كان يتلقى قدرا هائلا من التقارير عن علاقات بين هيكل والاهرام.

«... وكان يعتقد ان هيكل قد جعل من «الاهرام» مؤسسة خطيرة ذات أجهزة غريبة.

«... وكان هناك «الدسك» DESK وهو الاسم الذي نطلقه على «سكرتارية التحرير المركزية» وكان هناك «مركز للدراسات الاستراتيجية» وكان هناك «قسم معلومات» الى آخره، وكان يعتبر هذه أجهزة شيطانية أسس بها هيكل ليس جريدة ولكن حزبا سريا يستطيع ان يقوم بأدوار خطيرة.

«... وهكذا كان يفاجئني السادات احيانا بملاحظات من نوع: المركز الاستراتيجي ده يا احمد انا مش مستريح له ابدا. ده كان هوه اللي بيغذي هيكل بمادة مقالاته ويغذي عبد الناصر بالمعلومات التي تناسب هيكل، لازم تشوفلك فيه طريقة».

ويقول بهاء: «... مثل هذه الملاحظة كانت تتردد من حين لآخر بنفس الطريقة. وكنت اقول له نفس الرد: «يا ريس انا اعرف العاملين في هذا المركز واحداً واحداً واستطيع ان اتحدث عن كل شخص منهم. انهم شبان مستعدون للعكوف على دراسة أي شيء يكلفون بدراسته. وكل ما يصدر عنهم من مطبوعات، اقرأه جيدا ولم يكن عبثا انني طلبت اليك ان ينص قرار تعييني على انني مسؤول ايضا عن كل ما يصدر عن جريدة «الاهرام» من مطبوعتك. اريدك يا ريس ان تدلني على مقال واحد أو كتيب واحد فيه ما يثير الاشتباه في مقصده أو امانته العلمية».

ويضيف بهاء: «... لم يكن السادات يقرأ دراسات المركز، فلم يكن قارئا بطبعه ولكنه كان طبعا يحس انه من مخلفات وآثار هيكل وإذن فإن من فيه «هيكليون» وليسوا اكاديميين لديهم القدر المطلوب من التجرد الفكري.

كذلك «الدسك» فمن حين لآخر كان يقول لي نفس الشيء: يا احمد انت مش واخد بالك من «الدسك» دول اخبث ناس في ««الاهرام»؟ هيكل منقّيهم واحد واحد، انا يصلني كلامهم وتعليقاتهم كلها (السكرتارية المركزية التي هي الدسك تجلس حول مائدة في وسط صالة التحرير تماما وامام الجميع وعلى مسمع منهم) لسّه هيكل بيلعب بيهم وبيدسوا حاجات في الجرنال. فكان ردي ايضا تقليديا: انني جديد نسبيا على الاهرام ولا اعرف شخصيا مئات المحررين فيها، ولكنني أعرف بالتحديد اعضاء «الدسك» الذين يتراوح عددهم بين ثمانية وعشرة اشخاص. ثم انني اجتمع بهم مرتين يوميا: الساعة الثانية عشرة ظهرا لنقرر موضوعات الصفحات الداخلية وشكل الجريدة عموما. ومرة ثانية الساعة الخامسة لاعداد الصفحة الأولى والاستماع الى اية ملاحظات من أي محرر عن أي صفحة يمكن استدراكها في الطبعة الصادرة في اليوم التالي.

ويستطرد بهاء: «... كنت دائما أشرح هذه الأمور وغيرها عن الجريدة بالتفصيل وبأناة وصبر محاولا ان اشرح للرئيس تفاصيل العمل اليومي للجريدة من اجتماع التاسعة صباحا مع رؤساء الاقسام الى السهر حتى اتسلم أول نسخة من طبعة الغد حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا، مؤمنا بأن من يفهم تفاصيل الشيء يأنس اليه وتقل شكوكه فيه.

وأذكر مرة انه كرر لي نفس الملاحظة عن «الدسك» ودائما بدون تحديد مأخذ معين الا ضرورة التخلص من كل من فيه، وحاولت ان اغلق هذا الباب نهائيا. فقلت له في غضب لم اسيطر عليه كثيرا: يا ريس، اسمح لي، انت في الواقع تتهمني بالبلاهة، وعدم الكفاءة فأنا أرأس هذا «الدسك» مباشرة واجلس وسط افراده بالساعات يوميا وتصورك انهم يمكن ان يلعبوا بي أو يمرروا من تحت انفي ما لا اوافق عليه في الواقع ليس اتهاما لهم بقدر ما هو اتهام لي بالغفلة والبلاهة والذي يستحق التغيير في هذه الحالة هو انا وليس فلانا أو علانا.

ولم يعد بعد ذلك الى حديث «الدسك» مرة أخرى.

ثم اضاف بهاء: «... وكنت عندما توليت رئاسة تحرير الاهرام قد قررت ان اضع في الصفحة الاخيرة ـ وهي مكان بارز ومقروء ـ «بروازا» بعنوان «وجهة نظر» واعلنت ان هذا الباب من حق اي محرر في الجريدة من اقدم محرر الى أي محرر تحت التمرين ان يكتب فيه، وانني سأختار ما ينشر فيه كل يوم على اساس الجدة والجودة والمناسبة بصرف النظر عن الاسماء. وقد قاومت كل رئاسات «الاهرام» وقتها انشاء هذا الباب. ولكنني قلت لهم ان «الاهرام»» تعودت ان تعيش على كتابات هيكل واخباره وانها الآن محتاجة الى ان تحتفظ بمكانتها الى ان تعيش على اخبار وكتابات كل من فيها، وانه خلال شهور أو سنة سيظهر في هذا الباب ويلمع عشرات الكتاب الجدد الذين لم تتح لهم الفرصة.

«... ونجح الباب نجاحا كبيرا وتحمّس له الشباب المحررون ولمعت فيه اسماء أمام الجمهور لأول مرة ككتاب رأي. وكان طبيعيا ان يكون مذاق الباب حريفا في النقد اكثر من المعتاد في ذلك الوقت وفي الاهرام بالذات.

«... وبدأ السادات يشكو من كتابات هذا الباب، ثم لاحظ ان شكواه ليست من درجة حرارة النقد فيه ولكن من اسماء معينة. وكان سهلا ان ألاحظ ان بعضها اسماء عرفت بصداقتها لهيكل أكثر من غيرها ولكنه كان يقول لي: يا احمد فلان هذا شيوعي، ويكون ردي عليه: «يا ريس ده سبق حبسه لأنه من الاخوان المسلمين!» أو تكون الملاحظة والرد بالعكس مثلا.

ثم قال بهاء وكل كلماته شكوى ومرارة وعذاب: «... وقد عرفنا بعد سنوات انه كان في صالة التحرير كاتب تحرير، يزود الرئاسة بالمجلدات من التقارير عن النكتة التي قالها هذا والكلمة التي قالها ذاك ولم نعرف ذلك الا حين كوفئ صاحبنا بمكافآت ضخمة في عهود تالية لمرحلة رئاستي للتحرير وبناء على طلب من السادات.. شخصيا! وقد تأكد لي وقتها الى اي حد بلغ تسرب أتفه الاشياء عن «الدسك» أو عن الجريدة طبعا، عندما اخترنا في اجتماع الدسك يوما صورة للصفحة الأولى يظهر فيها الرئيس السادات وهو يعانق «ابو عمار» مستقبلا له وفي اليوم التالي عرضت علينا صورة مطابقة تقريبا لنفس الصورة والرئيس يعانق «أبو عمار» مودعا له، وقلت اننا هكذا ننشر نفس الصورة مكررة على يومين. واخترت بدلا منها صورة لرئيس وزراء المغرب الذي كان قادما الى القاهرة في مهمة.

وبعد مدة، قابلت «أبو اياد» الذي ضحك وقال لي: ابو عمار عاتب عليك. فسألته لماذا؟ فقال لي: يقول انك رفعت صورته يوما من الصفحة الأولى وفضلت عليها صورة لرئيس وزراء او وزير خارجية المغرب!! ودهشت طبعا لسرعة انتقال هذه الحكاية التافهة، وشرحت لـ «ابو اياد» القصة وضحك ابو اياد وقال ان الامر مجرد دعابة من «ابو عمار».

انتهى كلام صديقي الراحل احمد بهاء الدين. وهو كلام يشبه النحيب والتفجع! وكل هذه الاخبار، كنا على علم بها، جملة وتفصيلا. في داخل مصر وفي خارج مصر.

وكان زميلي وصديقي الراحل، أحمد بهاء الدين يحدثني عنها، خاصة في آخر لقاء معه في شقته المتواضعة بالقرب من مسرح «البرت»، المطل على حدائق هايد بارك في قلب لندن... وكان ما زال قادرا على المشي والكلام. ولم يغضب من جراء نشر هذا الكلام احد. ولم يعتب هيكل، أو أولاد أمين أو عائلة علي حمدي الجمال، أو حرم احسان عبد القدوس على احمد بهاء الدين. ذلك ان احمد ـ بحكم عمله ـ لم يزل شخصية لها الحق في كشف الاسرار او في سرد الروايات والقصص، بينما عليها، أي على شخصية بهاء، ان تتحمل نقد الآخرين لها.. أو كلامهم عنه.

ولكن... تلك مجرد صفحات عابرة من حياة أي صحفي أو حياة الصحافة في مصر في سنوات الثورة وما بعدها.

لم أشأ ـ رغم معرفتي بها ـ ان اكتبها أو اضمها الى واحد من كتبي، خاصة في كتابي عن «قصتي مع الصحافة» ولكني تركتها لصاحب القلم المثقف، وصاحب القلب الكبير ان يكتبها بقلمه، وبصراحته، وأمانته.

ورحم الله أحمد بهاء الدين..

وغفر الله لأنور السادات...