هل تتناقض المصلحة الوطنية مع الحرية والديمقراطية؟

TT

قبل نشوب الحرب اللبنانية بسنوات، وكان لبنان ينعم بأحلى أيام استقراره الداخلي وازدهاره الاقتصادي وملاءته المالية، وفي جلسة جمعت بعض السياسيين مع بعض رجال الاعمال، اخذ العميد ريمون إده، يهاجم الحكومة والسلطات بشدة، كعادته في معارضته الدائمة لكل الحكومات والرئاسات. وانبرى رجل الاعمال، انطون الصحناوي، وكان نائباً مواليا للدفاع عن الحكومة والعهد، وبالرغم من الصداقة التي كانت تجمع بين الرجلين، احتد العميد اده، وقال مخاطبا النائب الصحناوي: «انتم رجال المال والاعمال موالون طبيعيون لكل حكومة لأن ما يهمكم هو الاستقرار السياسي الذي يساعدكم على ازدهار اعمالكم وزيادة ثروتكم». ولم يتأخر رد النائب الصحناوي عليه قائلا: «وانتم رجال السياسة تتمنون أو يناسبكم اضطراب الأمور وتردي الاحوال. لتضخموا الاخطاء وتعظموا المخاطر بوجه الحكومة، لأن ذلك يتيح لكم معارضتها ويساعد على رحيلها ومجيئكم الى الحكم».

هذا الحديث الذي جرى منذ اربعين عاما تقريبا، لم يفقد شيئا من آنيته وصحته، ومن يتملى في الاحداث الاخيرة التي شهدها المسرح السياسي اللبناني، خلال الاسبوعين الاخيرين، يلمس ان اللعبة السياسية في لبنان لم تتغير كثيرا، رغم كل الازمات والمآسي والحروب التي شهدها لبنان، منذ ذلك الزمن.

ذلك انه في الوقت الذي كان فيه جميع اللبنانيين. والاوساط العربية والدولية، يستبشرون خيرا بالمصالحة المارونية ـ الدرزية التي كرستها زيارة البطريرك الماروني للشوف ويثنون على بيان القادة السياسيين المسيحيين الذي اثر اجتماعهم في «قرنة شهوان» ـ وهو بيان واضح الانفتاح على كل الطوائف والاحزاب وواضح الالتقاء مع معظم الشعارات الوطنية المختلف عليها سابقا ـ وغير المعادي لسوريا. في هذا الوقت الواعد، تنشب، فجأة، ازمة حكم وحريات حادة، سببها الظاهر قيام سلطات أمن الدولة (الاجهزة)، باعتقال عدد من المعارضين الراديكاليين (عون، جعجع)، وقمع مظاهرة طلاب بعنف شديد واثناء غياب رئيس الحكومة عن البلاد. اما اسبابها الحقيقية، فما زالت.. مجهولة؟

لم يشأ رئيس الحكومة اللبنانية، رفيق الحريري، «تكبير» الازمة، وكان لديه أكثر من سبب للاحتجاج والاستقالة، وحسنا فعل، لأن لبنان لا يتحمل فوق ازمته المالية، ازمة سياسية وربما ازمة حكم، تحدثها استقالة الرئيس الحريري، في مثل هذه الظروف والاوضاع. ولكن «تمرير» تعديل قانون اصول المحاكمات الجزائية في المجلس النيابي، رغم اعلان رئيس الحكومة معارضته لذلك، بالاضافة الى الهجوم الامني والقضائي والاعلامي الذي قامت به «الاجهزة»، طرحت اكثر من سؤال كبير حول مستقبل الحرية والديمقراطية والنظام البرلماني في لبنان.

فما حدث، ورغم ضبط مضاعفاته ولملمة جوانبه، طرح سؤالا جديا، أولا، حول طريقة الحكم، في ظل دستور الطائف، من جهة، وبالنسبة لأشخاص الحاكمين، وبنوع خاص ادوار واهداف الرؤساء الثلاثة: لحود، بري، الحريري، وهل هم يحكمون معا؟ أم بالتوازي والتوازن؟ أم ضد بعضهم البعض؟

فقد بات من الواضح ان هناك «أجهزة أمنية» تتدخل في الامور السياسية ومن وراء ظهر الحكومة، وبالرغم من حرص الحكم والحكومة على الالتزام بشكليات الدستور والنظام الديمقراطي البرلماني، فإن ما حدث، امس، وخلال صيف الانتخابات النيابية الماضي، من توجيه أو تدخل «سري» أو «في الكواليس»، من قبل هذه القوى الخفية، اصبح يقينا تتداوله كل الالسن، ومن بينها لسان رئيس الحكومة الذي قال علنا في المجلس النيابي وفي مقابلة تلفزيونية: «ان هناك اشخاصا فوق القانون يتنصتون على الهواتف ويتدخلون في أمور ليست من اختصاصاتهم».

والسؤال الآخر الذي يتمم السؤال الأول، هو عن موقف دمشق مما يجري في لبنان؟ لقد حسم الرئيس بشار الأسد الجدل حول الأزمة الأخيرة بقوله ان سوريا تدعم الرئيس اميل لحود وتضع فيه كل ثقتها. وانه لموقف طبيعي ومنتظر ولأكثر من سبب، اهمها تطابق مواقف الرئيس اللبناني السياسية الخارجية والعربية والدفاعية والوطنية، مع السياسة العليا السورية، وتعاونه الصادق مع الحكم السوري، ولكن هل تتقدم هذه الاعتبارات العليا والشخصية على كل الاعتبارات الوطنية أو السياسية الاخرى في لبنان؟ هل تعتبر المصالحة المارونية ـ الدرزية، وبيان قرنة شهوان، أم لا، خطوات تصب في مصلحة لبنان الوطنية العليا، وفي مصلحة تعزيز العلاقات اللبنانية ـ السورية وارسائها على اسس واضحة ومتينة ومتطورة نحو التحسن المستمر، وايا كان الحكام والحكومات؟ أم ان الواقعة السياسية التي تفترض بقاء الحكم في لبنان، في ايدي اشخاص واحزاب موثوقة أو ممسوكة أو موالية عقائديا لسوريا، تشكل الضمانة الافضل لها ولحسن سير العلاقات اللبنانية ـ السورية؟

بصرف النظر عن ملابسات هذه الازمة الأخيرة واسبابها المباشرة، والظاهرة أو الخفية، فإن اشكالية تناقض أو ملاءمة الحرية والديمقراطية، في لبنان والدول العربية، مع «المصلحة الوطنية» أو «المصلحة القومية» أو «مصلحة البلاد العليا» أو مع الاستقرار السياسي أو مع الامن القومي.. انما هي مشكلة كبيرة يرتهن بحلها مستقبل لبنان، بل مستقبل ومصير الشعوب والدول العربية. ذلك ان ثمة من يقول بأن احترام الحريات العامة والخاصة وحقوق الانسان واتباع نظام ديمقراطي في الحكم، وبناء المجتمعات المدنية والمؤسسات الحديثة في الدول العربية، هو الطريق الاسلم والاضمن للتغلب على كل التحديات، وفي مقدمتها التحدي الاسرائيلي. وهناك رأي آخر يقول بأن الشعوب العربية ليست مؤهلة أو «جاهزة» لممارسة الحريات العامة والديمقراطية، التي قد يستغلها اعداؤها ضدها، وبالتالي لا بد من «السهر على حمايتها» و«التشدد في مراقبتها»، وضرب أو منع أو قمع كل ما يمكن ان يهددها في استقرارها ووحدتها الوطنية، حتى ولو كان ذلك على حساب الحرية والديمقراطية.

لسوء الحظ، لم تحسم، بعد، هذه الاشكالية في لبنان والدول العربية والعالم، كما حسمت، مثلا، بالنسبة لبعض الدول الاوروبية، والاسكندنافية، ولكن عدد اللبنانيين والعرب الذين اقتنعوا، بعد نصف قرن من التجارب السياسية المرة ومن النكبات والحروب، بأن خيار الحرية والديمقراطية هو افضل واسلم واضمن، من الديكتاتورية، عسكرية كانت أم حزبية أم شخصية.. هو في ازدياد.