الاستجابة الثقافية

TT

لعبت الحركة الصهيونية منذ وقت مبكر في المجال الثقافي العربي والاسلامي بغرض التأثير فيه وايجاد تيار فكري يساند مشروع الدولة الاسرائيلية. حدث ذلك في مستهل القرن العشرين وفي قلب الدولة العثمانية ذاتها ـ مركز الخلافة الاسلامية ـ كما حدث في الكثير من البلاد العربية، وكانت الجامعة العبرية في فلسطين وقبل اعلان الدولة قد وجهت دعوات الى بعض الكتاب العرب في مناسبات علمية مختلفة كان من بينهم طه حسين وحسين فوزي من مصر. وكان قبول الدعوة في هذا الوقت شيئا طبيعيا. ونحن لا نعرف على اية حال مدى ادراك هؤلاء الاساتذة للمشروع الصهيوني وبالتالي موقفهم منه. والغالب انهم لم يدركوا هذا المشروع بصورته التي تجلت بعد اقامة الدولة الاسرائيلية، ولم يكونوا مؤيدين له حينذاك. والواقع ان العالم الاسلامي في منطقة الشرق الأوسط كان مشغولا بأشياء كثيرة في المجال الفكري. وكان انفتاح المثقفين على الثقافة الغربية قد ادى في تفاعلاته الى نشوء حركة استنارة بمعناها الفلسفي، فالشاعر ورئيس الوزراء في الثورة العرابية محمود سامي البارودي وُجدت بين اوراقه مقالة في منهج البحث او قل فسلفة المعرفة، تأخذ بالتجريب والاستقراء والاستدلالات العقلية، وقد نشرها المرحوم محمود الشنيطي في مختاراته التي صدرت تباعا في كتيبات صغيرة ومنها كتاب «الكلمات الثماني» للشيخ حسين المرصفي الذي كان له تأثير بالغ على الكثيرين من مثقفي عصره ومنهم البارودي نفسه ثم طه حسين بعد ذلك. وكان حديث المرصفي عن كلمات ـ يبدو انها كانت شائعة ومتداولة بين المثقفين ـ مثل الديمقراطية والحرية والمساواة وغيرها من المصطلحات التي جلبتها حركة التنوير الاوربية وشاعت في الكثير من بلدان العالم. وكان شديد الحماسة لها. وكانت الاوضاع المتدهورة للامبراطورية العثمانية قد حفزت مثقفي العالم الاسلامي على التفكير في الاصلاح فظهرالمجددون داخل الدولة العثمانية وفي الاقاليم ايضا. ولم يكن جمال الدين الافغاني هو الوحيد الذي جاء بأفكار التجديد. فما ان انتهت الحرب العالمية الاولى واعقبتها حركات الغليان داخل الدولة العلية حتى كان من السهل على مصطفي اتاتورك ان ينقل دولة الخلافة مائة وثمانين درجة الى دولة علمانية بدون ان يجد مقاومة ذات شأن من جماهير الشعب التركي ومثقفيه. ومع أن النقلة كانت مفاجئة وقوية وأذهلت الكثيرين من المثقفين الا انها وجدت انصارا حتى في الاقاليم وخاصة في مصر والشام. وربما امكننا الآن ان نتفهم الرغبة التي استولت على الخديوي اسماعيل حاكم مصر في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر، لنقل مصر الى مستوى العالم الاوربي، وقد فعل ذلك في اكثر من مجال خاصة في فن المسرح ونشر الصحافة ونظم التعليم التي وجد لها رجلين بارزين هما رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك، اللذان لقيا النفي والطرد من الخديوي الاسبق عباس الاول الذي كان مستريبا في العالم الاوربي ورافضا لحركات التحديث ومعاديا لممثليها. على ان حركة التحديث قويت في المجتمع المصري عقب الحرب العالمية الاولى مباشرة وكانت الجامعة الاهلية قد قامت وترسخت الى حد ما، ثم تحولت الى جامعة حكومية في عشرينات القرن العشرين حيث بلغ الايمان بالفكر الليبرالي غايته وبدأت ثقافة التنوير تنعكس في كتابات وابحاث الكتاب، الجامعيين منهم وغير الجامعيين، وربما كانت ثورة 1919 هي التي فتحت الابواب امام الافكار الليبرالية الحديثة وغيرت في الكثير من اسس الابداع الفني والادبي والفكري. وبالفعل حدثت قفزات نوعية في الموسيقى والمسرح فضلا عن الفكر النقدي الادبي والسياسي والذي ادى الى ظهور الكتابين المشهورين «الاسلام واصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق و«الشعر الجاهلي» لطه حسين، فضلا عن كتب ومجلات اخرى علمانية على طول الخط، مع ان هذا التيار قوبل من معارضيه بقوة، ووجد الهجوم مساندة من سلطة القصر ـ بصفة خاصة ـ وصمتا من سلطات الاحتلال البريطاني الذي كان هدفه الاوحد ايجاد توازن يسمح باستقرار الاوضاع بين تيار الحداثة والتيار المحافظ. على ان تيار التحديث كان قويا في الاحزاب السياسية وخاصة في حزب الوفد، وفي اثناء الحرب العالمية الثانية لم تتعمد سلطات الاحتلال قفل النوافذ امام افكار المفكرين الاوربيين الحديثة بما في ذلك التيارات الاشتراكية. وما ان انتهت الحرب العالمية الثانية حتى كان المنحى العلماني هو الغالب بتياراته المختلفة ابتداء من الفكر الليبرالي الى الفكر الاشتراكي. وكان لدى كل من هذين التيارين افكاره عن التحديث وخاصة بالنسبة للتعليم والثقافة. وكان طه حسين قد اسهم ـ حتى من قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية ـ في رسم خطة شاملة للثقافة في مصر والعالم العربي في كتابه المشهور «مستقبل الثقافة في مصر». ولم يمض الا قليل من الوقت حتى اصدر العالم القانوني والسياسي البارز عبد العزيز فهمي كتابه الذي يقترح فيه كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية اسوة بما حدث في تركيا على يدى حكومة اتاتورك. ومع ان الكتاب كان محاولة للتغلب على مشاكل علامات الفتح والضم والتنقيط وغيرها مما احتج به لطلب استعمال الحروف الافرنجية، الا انه كان تعبيرا عن رغبة واضحة في التخلص من ثقافة «العالم الشرقي»، وكلها امور كانت كامنة في تيار التحديث وان كان هنا في اقصى درجاته تطرفا. وكان من الطبيعي ان تلجأ الحركة الصهيونية الى التعامل مع هذا التيار في البلاد العربية جميعا وليس في مصر وحدها. وبالفعل انتشر مصريون يهود في نشاط الحركات اليسارية والشيوعية منها بصفة خاصة، ربما لطابعها السري. وفي وقت من الاوقات كانت اربع حركات شيوعية سرية يقودها أربع شخصيات يهودية. ونفس الشيء حدث في العراق وربما في غير هذين القطرين في العالم العربي. ومن الصعب حتى الآن فهم حقيقة هذه الظاهرة وهل كان هؤلاء اليهود اصحاب فكر ام جنودا في الحركة الصهيونية، لكن هذا الظهور اليهودي الكثيف تزامن مع النشاط السياسي للحركة الصهيونية في فلسطين والذي انتهى بقيام الدولة الاسرائيلية. وفي هذه الفترة ظهرت دار نشر كبرى اصدرت مجلة «الكاتب المصري» التي رأس تحريرها طه حسين وكانت الشركة بتمويل يهودي. والمراجعة السريعة لهذه المجلة واصدارات الشركة التي تصدرها من الكتب لا تدل على ان لها اهدافا دعائية صهيونية، ولست ادري ما اذا كان هذا الموضوع قد بحث بشكل علمي ام لا؟ ولكن من الواضح أن التعبئة الواسعة التي قامت بها الحركة الصهيونية في العالم العربي كانت تعتمد على روح التسامح التي تنطوي عليها الثقافات الليبرالية والاشتراكية بشكل عام، وربما اكثر من ذلك على الطابع العلماني البارز الذي كانت تصدر عنه هذه الافكار. لكن على مستوى الممارسة الواقعية لم يستطع التسامح او بؤرة النظر العلمانية ان تجعل المثقفين العرب، سواء في مصر او غيرها، يبتلعون الفكرة الصهيونية القائمة على اغتصاب الارض الفلسطينية، وأن تقوم دولة «يهودية» على اشلاء شعب عربي هو الشعب الفلسطيني. ولم تفلح كل التجهيزات ـ ان صح انها كانت كذلك ـ ان توجد رأيا عربيا عاما في مصر او في العراق او الشام يقبل بقيام هذه الدولة ويمنحها الشرعية التي تفتقر اليها. ولم تضع الحركة الصهيونية وقتها، اذ سرعان ما قامت عمليات التصفيات العرقية الدموية في دير ياسين وغيرها، ووضح الوجه العنصري البشع وراء الفكرة الصهيونية. وعند هذه النقطة لم تبق الا فلول قليلة تتحدث عن السلام مع اسرائيل. وخارج دائرة الاتصالات الحكومية لم ينجح المثقفون المصريون او العرب الذين قبلوا الحديث مع «عناصر السلام» الاسرائيلية، في اقناع احد في مصر او اي قطر عربي آخر بأن مثل هذا التعامل شيء عقلاني وموضوعي. وما زال من الصعب على المثقفين العرب تقبل الفكرة الصهيونية، وسوف يكون على هذه الحركة نفسها ان تبحث عن اسلوب مغاير تماما لكل تاريخها وفلسفتها العدوانية لكي تمد جسورا للتفاهم. وقد يكون الفكر العلماني الحديث اكثر رفضا للفكرة الصهيونية، فأغلب الحجج التي تتحرك فيها الافكار الصهيونية المعاصرة تستند الى الاساطير ومرجعيات لا تحترمها العقلية العلمانية، اما التيارات الاصولية فتستمد رفضها من مرجعيات عديدة وهي تفتقر او تستجيب مع حاجة الشعوب العربية ـ مسلمة او مسيحية ـ لمساعدة القوى الالهية امام تحد له طبيعة عالمية وقوة تآمرية تبدو كاسحة احيانا، يعمل على تهميش الدول العربية والاسلامية في السياسات الدولية بحيث اصبح من شبه المستحيل الاعتماد على مبادئ العدالة الانسانية وروح الانصاف التي يفتقر اليها المجتمع الدولي. وربما، وبسبب الرفض المشترك، من جانب الفكر العلماني والفكر الاصولي للمشروع الصهيوني، سوف يظهر تركيب ثقافي او فكري جديد تستند اليه الاستجابة العربية على التحدي الاسرائيلي.