(النهضة السعودية): أو تجربة نفي (الجفوة) بين الدين والتقدم

TT

هل هو (جحود متعمد) أو (جهل معيب)، أو )ذهول فكري) ـ يشبه الغيبوبة ـ: ورّط أصحابه في هاتين الخطيئتين؟

الذهول الفكري عمّاذا؟

عن (النموذج السعودي) في إقامة نظام اجتماعي وسياسي جمع ـ في واقعية وتواضع ـ بين مقتضيات الإسلام ـ في العقيدة والشريعة ـ وبين متطلبات العصر والوقت في النهوض والتقدم.

ومن هم الذاهلون؟

هما فريقان ـ في الغالب ـ: فريقان متناقضان متخاصمان:

أولا: الفريق الأول: وهو صنفان:

1ـ صنف يعطي نفسه الحق في تكوين (تنظيمات غير معلنة) تعمل لإقامة (الدولة الإسلامية) في السعودية!!.. وإذا قيل لهم: لكن الدولة الإسلامية قائمة بالفعل وفق شرائطها العلمية الشرعية وهي:

أ ـ توحيد الله وحده لا شريك له: «فاعبد الله مخلصا له الدين. ألا لله الدين الخالص».

ب ـ الاجتهاد التطبيقي في إنفاذ شريعة الإسلام: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون».

ج ـ الاجتهاد التطبيقي في إقامة العدل ورعاية مصالح الناس: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل».

د ـ وحدة الجماعة: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا».

هـ ـ الاجتهاد التطبيقي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر».

و ـ الاجتهاد التطبيقي في إقامة الشورى وإعمالها: «وشاورهم في الأمر».

ز ـ إعداد القوة لردع العدوان عن الديار أو الوطن: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».. إذا قيل لهم هذا، (دون أدنى ذرة من ادعاء للعصمة في التطبيق)، قالوا: لكن هناك أخطاء في التطبيق، وكأنهم حين يأتون (لا قدر الله) لن تكون لهم أخطاء!! (على حين أن أخطاء أمثالهم قد فاحت قبل الوصول إلى الحكم).. والقاعدة الأصلية ـ هاهنا ـ هي: إن المجتمعات الإنسانية ـ ومنها المجتمع الإسلامي ـ: ليست ملائكية بطبيعتها، ولا معصومة في بشريتها.. والحديث النبوي الصحيح: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله تعالى، فيغفر لهم»، هو حديث ينطبق على الأفراد كما ينطبق على المجتمع والدولة.. ومن الدلائل على هذا الذهول الفكري عند هذا الصنف من الناس: أنهم يضربون الأمثال بآخرين، فمنهم من يضرب المثل بالنموذج الإيراني، ومنهم من يضرب المثل بالنموذج التركي.. ولا زيادة!!.. أين النموذج السعودي: الأسبق والأثبت والأطول مدى؟

2ـ الصنف الثاني من الفريق الأول: لم يكتف بالذهول أو الغيبوبة عن وجود )دولة مسلمة) ـ هاهنا ـ، بل عمد إلى (تكفيرها)، والخروج بالسلاح عليها، بزعم أنها دولة غير مسلمة، وكأن (المكفراتية) هم المؤهلون لإقامة الدولة المسلمة، أي المكفراتية الذين سيجعلون على رأس أجندتهم: تكفير الناس وقتلهم: بالشبهة والذنب والمعصية والتأويل الفاسد لنصوص الدين.. ودوما يكون التكفير مسوغا لحمل السلاح عند هذا الصنف من الناس. ولذا عمد الخوارج إلى (تكفير) الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ: توطئة للخروج عليه بالسلاح، واستباحة دمه الطاهر. نعم، فالتكفير محاولة للهروب الجاهل ـ والفاجر ـ من طائلة قول الله عز وجل: «ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما».

إن القياس الخاطئ على نماذج أخرى للحكم هو الذي ورط هذا الفريق ـ بصنفيه ـ في هذا الذهول والغلو.

ثانيا: الفريق الثاني الذاهل ـ إلى درجة الغيبوبة ـ عن (النموذج السعودي في الحكم والنهضة) هم الذين لا يزالون يجادلون في مسألة قيام الدولة على )أساس الدين)، والذين يزعمون أنها مسألة قد حسمت منذ قرون في أوروبا حيث سقطت )المؤسسة الدينية) الكهنوتية هناك، والذين يزعمون ـ بناء على تجربة أوروبا ـ: أن إزالة التناقض بين الدين وبين التقدم (المعرفي والاجتماعي) لا تتحقق إلا بفصل الدين عن الدولة، وإلا بقيام دولة علمانية أو وطنية (بحتة)، أو دولة قومية ـ على غرار الدولة القومية في أوروبا أيضا ـ.. ولا يفتأ هذا الفريق يردد مقولات مثل: هل تريدون لنا دولة مثل دولة الملالي في إيران، أو دولة طالبان البائدة في أفغانستان؟.. وهذا برهان واضح على ذهول هذا الفريق عن النموذج السعودي ـ المختلف ـ والذي نهض منذ أكثر من قرن ـ على الأقل ـ، بمعنى أنه نموذج قد سبق ـ بمدة طويلة جدا ـ النماذج التي يتحدث عنها هذا الفريق بنوع من النقد الساخر.

إن القياس الخاطئ هو الذي ورط هذا الفريق فيما تورط فيه من مفهوم سيئ عن الحكم الإسلامي.. ودوما يكون القياس الخاطئ هو أصل البلاء في التصور والفهم والحكم.. وبين أيدينا الآن مثل جد مناسب للسياق والموضوع.. كان المفكر المصري الكبير الرائع الأستاذ خالد محمد خالد ـ رحمه الله ـ قد ألف في مطلع خمسينات القرن الماضي كتابا بعنوان (من هنا نبدأ) ندد فيه بما سماه (الحكومة الدينية)، وتوصل من خلال هذا التنديد إلى رفض أن في الإسلام دولة وحكما.. ثم بعد ثلاثين عاما أصدر كتابا جديدا ـ ملؤه الأمانة والشجاعة ـ اعترف فيه بخطئه ثم عرّفنا بالسبب الأكبر وراء خطئه وهو: أنه قاس الحكم في الإسلام على الحكم الديني الكهنوتي في أوروبا.. وهذه هي عبارته الصريحة الأمينة: «وأود أن أشير إلى أن تسمية (الحكومة الإسلامية) بالحكومة الدينية فيه تجن وخطأ، فعبارة (الحكومة الدينية) لها مدلول تاريخي يتمثل في كيان كهنوتي قام فعلا، وطال مكثه، وكان الدين المسيحي يستغل أبشع استغلال في دعمه وإخضاع الناس له.. إذن فقد كنت في قمة التأثر ببشاعة وجرائم الحكومة الدينية المسيحية، ثم عكستُ الصورة في غير حق على الحكام السياسيين في الإسلام واعتبرتهم حكومة دينية إسلامية».

ثم إن هذا الفريق (يذهل) عن النموذج السعودي الذي تمثل في قيام دولة (انحازت) للتقدم ـ بإطلاق ـ منذ أول يوم: انحازت للتقدم بمقتضى (الإسلام الحق) الذي ما جاءت شريعته إلا لتحقيق مصالح الناس ، والتسامي بها ليس لتلبية الضرورات فحسب، بل التسامي بها ـ كذلك ـ إلى أقصى مراتب المعرفة ـ بلا سقف حاجز ـ وإلى أعلى مراتب الرفاه الميسور، والسعادة المستطاعة: معنويا وماديا، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع.. يقول الملك عبد العزيز: «إنني أرى من واجبي ترقية جزيرة العرب والأخذ بالأسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة مع الاعتصام بحبل الدين الإسلامي الحنيف».. فأولوية الملك المصلح: ترقية جزيرة العرب.. وهذا انحياز للتقدم والرقي، وهو انحياز متناغم ـ في منهجه ـ مع (الاعتصام بحبل الدين الإسلامي).. ويبديه: أن هذا الملك الكبير: لم يأخذ مفهومه التقدمي النهضوي من الماركسية، ولا من الفلسفات القومية والعلمانية ـ التي كانت سائدة يومئذ ـ وإنما استمد مفهومه ونموذجه من الإسلام ومن مدنيته العظمى.. يقول باني النهضة الجديدة: «إن المدنية الإسلامية التي سطع نورها في العالم وكانت أساسا لنهضات الأمم الأخرى، لم تكن مدنية مزيفة تقتصر على الزينات والماديات، وإنما كانت مدنية علم وعمل وحث المسلمين على التمسك بالشريعة السمحة».

واستمد مفهومه التنويري ونموذجه التقدمي من (سوابق) الدولة الإسلامية، ولا سيما في عصورها الزاهرة.. نقرأ في كتاب (العلم في التاريخ) لـ ج. برنال قوله عن تقدم العلم في كنف الدولة الإسلامية ـ: «وفي خلال الفترة القصيرة من عام 754 ـ 861 في عهد الخلفاء العباسيين: المنصور وهارون الرشيد والمأمون، بل والخليفة الورع المتوكل، في هذه العهود لقيت العلوم تشجيعا لم تشهد مثله منذ أيام متحف الإسكندرية، ولم يكن الخلفاء الأمويون وصغار الأمراء الذين خلفوهم أقل اهتماما في إسبانيا ومراكش. وكان هذا الارتباط بين العلم وبين الملوك مصدر قوة للعلم».

والخلاصة الإيجابية هي: كيف يعالج هذا الذهول الظالم عن التجربة السعودية؟ يعالج بتحرير العقل من القياسات الفاسدة، ويعالج بتجديد الوعي بالحقائق والمفاهيم التالية: حقيقة أنه في أرض الواقع توجد دولة إسلامية ـ بشروطها الشرعية ـ وهي المملكة العربية الإسلامية، وحقيقة أن هذه الدولة منحازة للتقدم بإطلاق بمقتضى (إسلامها)، وحقيقة أن هذه الدولة قد نجحت في إزالة الجفوة المفتعلة بين الإسلام ومتطلبات التطور والتقدم الحقيقية، وحقيقة أن هذه الدولة وهي ملتزمة بإسلامها قد أقامت علاقات وثيقة مع عالمها الإنساني الواسع: تبادلا تجاريا ومعرفيا، وعلاقات دبلوماسية والتزاما بالمواثيق والعهود. دولة لم تشعر بأن إسلامها قد قيد نهضتها ولم يشعر طرف ما: تعامل معها بأن مبادئ الإسلام عطلت مصلحته أو نقضت عهده، بل العكس هو الصحيح.

وَيْ!!

أويعجب الناس أن تقوم في عالمنا وعصرنا تجربة تنطق بـ(لا إله إلا الله)، ولا تنس نصيبها من الدنيا؟!