القاعدة في تراجع

TT

تأمين الوضع في أفغانستان يشغل العالم، حيث يختلف تعريف المقصود بإنجاز المهمة العسكرية للقوات الدولية.

هدف المدى القصير هو إبعاد خطر «القاعدة» عن ضحاياها المستهدفين بحرمان الجماعة الإرهابية من ملجأ آمن ومنصة انطلاق.

وعلى المدى الطويل إلحاق الهزيمة بالطالبان في شكل ضربة ضخمة موجعة في جنوب شرق أفغانستان، وفي منطقة وزيرستان في باكستان، بشكل يقنع قيادتهم السياسية بعدم جدوى الاستمرار في القتال وزرع القنابل بين المدنيين الأبرياء. عندها فقط يمكن إقناعهم بأن المعادلة العسكرية لم تعد في صالحهم، ولن تكون في صالحهم وتنحصر خياراتهم في البقاء معزولين خارج اللعبة أو الانخراط في العمل السياسي وإعادة بناء الدولة الأفغانية التي تشمل أعراقا متعددة، وتيارات سياسية مختلفة الانتماءات والايدولوجيات والمفاهيم. وهذا بدوره يحرم «القاعدة» من الملجأ الآمن بعد انتهاء مهام القوات الدولية.

فـ«القاعدة» اليوم تتراجع وفي حالة هروب دائم، ومن الحماقة إضاعة الفرصة دون القضاء على نفوذ «القاعدة» السياسي الايدولوجي ومنع أذرعتها من الوصول إلى بقاع العالم التي اختارت الديموقراطية نهجا للحياة، وهو أمر يحتم بالضرورة تقليص الإمكانيات العسكرية للطالبان، وإيقاع الفرقة بين صفوفهم لدفع الجناح البراغماتي إلى التفاوض مع الحكومة الشرعية المدنية في أفغانستان للاندماج في العمل السياسي، شريطة نبذ «القاعدة».

وحسب معلومات أكثر من مصدر مخابراتي فإن تنظيم القاعدة، وفروعه، لا يملك اليوم القدرة على عمليات إرهابية على مستوى عال، كالذي حدث في 11 سبتمبر.

كما أن «القاعدة» وخلاياها على جميع المستويات تعاني من نقص مالي شديد لا يجعل خلاياها النائمة غير قادرة على العمل فحسب، بل يجعلها في حالة أرق مستمر بسبب جفاف مواردها المالية.

التعاون المستمر بين المصارف العالمية، وإخضاع بنوك تخليص تبادل العملات العالمية clearance banks لقوانين الشفافية والتأكد من شخصيات محولي العملات ومتلقيها، والرقابة المشددة التي فرضتها سلطات الأمن السعودية وقوانين وزارتها المالية وزميلاتها الخليجية بشأن تحويل العملات من جمع التبرعات، حرمت نشطاء «القاعدة» من مليارات الدولارات التي كانوا يحصلون عليها من تبرعات المتعاطفين، أو من تبرعات مواطنين عاديين خدعتهم الدعاية فظنوا أنهم يتبرعون لأعمال خيرية.

وأدى جفاف التحويلات المالية إلى تقشف حقيقي في مصاريف «القاعدة» وقدرتها على دعم خلاياها حول العالم؛ وتوفير إمكانيات التحرك ومصاريف السفر والإقامة بالمرونة التي كانت تسمح لهم في السابق بتدبير عمليات إرهابية.

العامل الثاني هو استمرار عمليات القصف الجوي، بطائرات بلا طيار، تشنها المخابرات المركزية الأميركية منذ عامين على المناطق التي تختبئ فيها الكوادر القيادية لـ«القاعدة» في مناطق الحدود الجبلية بين باكستان وأفغانستان.

هذه الطلعات الجوية التي أجهزت على ما يزيد على 34 من قيادات «القاعدة» في هذه المناطق، أدت بقياداتها العليا، بما فيهم أسامة بن لادن، وشريكه في الجرائم أيمن الظواهري، إلى الاختباء وعدم القدرة على التحرك، حيث تصطادهم هذه الطائرات الموجهة من بعد، بالتنسيق مع كاميرات الأقمار الصناعية المسلطة على هذه المناطق طوال ساعات اليوم الـ24.

حرمت الطلعات الجوية المستمرة «القاعدة» من استخدام وسائل الاتصالات الحديث كالإنترنت والتليفون المحمول وتليفون الأقمار الصناعية، حيث تلتقط أقمار تجسس الـ«سي آي إيه»، أية إشارة لتحديد موقع مستخدمها لتوجيه صواريخ وقنابل الطائرات نحوه في خلال ثوان قليلة.

كما أن هذه العمليات أوقعت الاضطراب في صفوف قيادات «القاعدة»، حيث يزداد شكهم في بعضهم البعض، معتقدين أن مضيفهم من قبائل البشتون، أو زملاءهم غدروا بهم وأبلغوا الأميركيين عن مواقعهم فقصفتهم الطائرات الأميركية.

وهذا العامل النفسي وحده أدى لتعطيل العديد من خطط «القاعدة» وأفسدها، ووضع نشطاء «القاعدة» في موقع الدفاع لأول مرة منذ نشاط المنظمة الإرهابية، حيث حرمتهم من عنصر المبادرة وجعلتهم يتوقعون المفاجأة بدلا من قيامهم هم بمفاجأة العالم بعملياتهم الإرهابية، كما كان الوضع في الماضي.

ولم يعد بقدرة «القاعدة» استقبال متطوعين مسلمين من بلدان أخرى يقومون بتدريبهم في معسكرات مختفية وراء الجبال، لأن الجبال التي يختبئ فيها بن لادن والظواهري وأتباعهما مكشوفة من الجو للأميركيين طوال الوقت، ولا يوجد لهم الآن معسكر واحد للتدريب.

وإلى جانب عجز «القاعدة» عن القيام بعمليات كبيرة، فإن إفلاسهم المالي وضعفهم السياسي والأمني حرمهم حتى من القدرة على إنتاج شريط فيدو دعائي تبثه الجزيرة وأخواتها يظهر فيه الظواهري أو بن لادن.

كما أن استياء سكان المناطق الجبلية من الغارات الجوية الأميركية المستمرة، له أثر آخر، يراهن عليه الأميركيون.

صحيح أن غضب سكان قبائل وزيرستان من الغارات الأميركية ينصب على الأميركيين في رد الفعل الأول، إلا أن استمراره، مع وصول أخبار إصرار الحكومة الباكستانية في إسلام آباد على اتخاذ إجراءات حاسمة ضد الطالبان، قد بدا في إثارة تساؤلات وهمسات، قد تتحول إلى صيحات، عن الفائدة من استضافة وحماية قيادات «القاعدة» بينهم، مما يجعلهم هدفا للهجمات الأميركية.

وكان بن لادن، يشتري بأمواله سكوت أهالي المنطقة وزعماء القبائل، لكن مع جفاف السيولة النقدية وعدم وصول الأموال إليه، قد يؤدي إلى تمرد زعماء القبائل عليه بعد انتهاء مفعول آخر الدفعات المالية التي دفعها لهم.

بالتناقض مع ذلك، يتمتع الطالبان في المنطقة نفسها برخاء مالي كبير بسبب تحكمهم في تهريب المخدرات التي يتم زراعتها وإنتاجها في هذه المناطق، ومن فرض إتاوات على المزارعين، وعمليات النهب بقطع الطرق التي لا تسيطر قوات الحكومة عليها.

ورغم أن ذلك يساعد حركة الطالبان على القيام بعمليات انتحارية ضخمة قي التأثير الدعائي (كما يحدث في باكستان الآن)، فإنها تساعد على إمكانية استقلالية الطالبان عن «القاعدة» التي كانت تمدهم بالدعم المالي.

ولذا فالعمل على دق إسفين بين الطالبان و«القاعدة»، مرغوب ومطلوب، عن طريق احتواء عناصر من الطالبان، استدرجت بفكرة قتال القوات الأجنبية وليس للسير كالأعمى وراء الايدولوجية الشريرة التي يروجها الملا محمد عمر، مؤسس الحركة وزعيمها.

والمطلوب أيضا دعم العالم لباكستان في الوقت الذي يشن فيه جيشها هجوما مؤثرا ضد الطالبان لتحريرها من نفوذ «القاعدة».

والباكستان قدمت تضحيات كبيرة، لأن تعرض الطالبان للحصار وعدم القدرة على مواجهة الجيش الباكستاني، دفعا عناصرها إلى عمليات انتحارية ضد أهداف مدنية؛ وهذا بدوره يشحن الرأي العام الباكستاني غضبا ضد تطرف الطالبان ودعما للحكومة المركزية.

المطلوب من البلدان العربية اليوم دعم باكستان في هذه المعركة، ومساعدة الحلفاء على تقوية ودعم جيش أفغانستان، لمحاصرة قوى الشر الممثلة في «القاعدة» وأتباع الملا عمر، فضحايا «القاعدة» وفروعها في البلدان العربية والإسلامية يبلغ أضعاف ضحاياها من غير المسلمين.