الحقيقة المخفية في أرض نهر البارد

TT

عندما عملت مع الحكومة اللبنانية قبل عامين، أطلقنا حملة إعلامية قامت على ثلاثة وعود للفلسطينيين: أن إعادة بناء مخيم نهر البارد مؤكدة، والتشريد أمر مؤقت، والعودة مضمونة.

الآن، يتحتم على لبنان الوفاء بهذه الوعود. وإلى جميع السياسيين في بلادي أقول: إذا كان فريق المسؤولين الذي أرسلتموه إلى المخيم منذ بضع سنوات عاد أعضاؤه وأعينهم مغرورقة بالدموع، فما بالكم بضحايا نهر البارد الذين جرى تكديسهم داخل حاويات من الحديد على مدى عامين؟

تحت حطام نهر البارد دفنت الحقيقة، وليس مجرد قطع آثار. وهذه الحقيقة هي التي ستحمي أرواح الجنود اللبنانيين وضحايا نهر البارد وأمن لبنان.

إن أكثر من أربعين مقابلة أجريتها مع جهات كبرى معنية هذا الصيف، جعلتني أتوصل إلى قناعة بأنه لم تجر أي جهود حقيقية للتقصي من قبل وسائل الإعلام حول ما جرى في نهر البارد، خصوصا في ضوء منع الجيش اللبناني الصحافيين من الدخول إلى المخيم أثناء الأزمة.

ولا يزال اللبنانيون يتساءلون: من يقف خلف جماعة «فتح الإسلام»؟ وكيف تمكن زعيمها، شاكر العبسي، من الفرار في وقت كان الجيش اللبناني يحاصر المخيم لأكثر من 100 يوم؟ ما السبب وراء استمرار حجب شهادات المعتقلين من أعضاء «فتح الإسلام» عن الرأي العام؟ ما سر اغتيال القائد العسكري المسؤول عن العمليات في نهر البارد؟ ما الذي حدث للضابط الجاسوس الذي تم الربط بينه وبين نهر البارد؟ من يتحمل مسؤولية نهب منازل الفلسطينيين والكتابات العنصرية على جدرانها؟ هل هناك آثار بالفعل في نهر البارد أم أن هذا لا يعدو كونه ذريعة أخرى لإرجاء جهود إعادة الإعمار والبناء؟

من جهته، يعتقد المحامي نزار صاغية أنه يتعين على الحكومة اللبنانية الدعوة لإجراء تحقيق وطني بشأن ما حدث في نهر البارد. وقال: «على الأقل، سيعد هذا اعترافا من جانب الحكومة بأن الكثير من التساؤلات لا تزال من دون إجابة».

وتكمن التساؤلات الباحثة عن إجابة في قلب العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية المتردية في أعقاب أحداث نهر البارد.

حتى يومنا هذا، يتعذر على أي شخص الدخول إلى أو الخروج من نهر البارد دون تصريح، بما في ذلك قاطنوه الذين يتجاوز عددهم 15 ألف شخص يعيشون وسط الركام والأطلال. ولا يزال الجيش يسيطر على جميع نقاط الدخول والخروج الأربع الأساسية.

وعندما حصلت على تصريح من الجيش اللبناني لزيارة المخيم هذا الصيف، بات من الواضح للغاية أمامي السبب وراء رغبة الجيش في الحصول على أسطوانة الفيديو الرقمية (دي في دي) التي سجلت عليها كل ما عاينته، قبل نشرها.

هناك، وجدت آلاف الفلسطينيين مكدسين داخل حاويات مصنوعة من الصلب ـ جرى بناؤها في بداية الأمر كمساكن طارئة عام 2007. وتتجمد أطراف هؤلاء الفلسطينيين في الشتاء، بينما يلهب أجسادهم القيظ في الصيف. وينام على الأرض ما يصل إلى ستة أشخاص، بينهم أطفال، يأكلون ويعيشون في المساحة ذاتها. أما «دورة المياه» شديدة الضآلة، فتتألف من فتحة في الأرض، من دون دش أو حوض استحمام. بجانب دورة المياه، يوجد مطبخ صغير، حيث تستمتع جحافل الصراصير والنمل والذباب بمخلفات الطعام.

إن الهدف هنا ليس توجيه أصابع الاتهام نحو الأونروا، وليس من الإنصاف تحميل المنظمة كل مشاكل المجتمع الفلسطيني في لبنان، خصوصا وأن هناك موظفين في الأونروا قتلوا وهم يحاولون تقديم العون للفلسطينيين خلال الأزمة. إن اللاجئين يبقون في الأساس مسؤولية المجتمع الدولي ككل. وبالتعاون مع الحكومة اللبنانية تبقى الأونروا مسؤولة وملتزمة بتحسين الأوضاع المعيشية للاجئين، إلا أن احتياجات هؤلاء اللاجئين تبقى أكبر بكثير من الموارد المتاحة.

وفي وقت سجلت فيه بعض حالات إصابة بإنفلونزا الخنازير في لبنان وبات الشتاء على الأبواب، أصبح هذا الوضع ينطوي كذلك على مخاطر صحية محتملة، خصوصا بالنظر إلى أعداد العاملين بحقل الخدمات الاجتماعية من اللبنانيين والأجانب الذين يدخلون ويخرجون من المخيم يوميا.

عندما ساورني القلق حيال الوضع، عكفت على البحث عن مستشفى وأخيرا صادفت وحدة طوارئ تعمل على مدار 24 ساعة تتبع منظمة «الهلال الأحمر» الفلسطينية. وقد مررت أمام الوحدة أربع مرات قبل أن أدرك أن هذا المبنى الصفيحي الصغير هو مقر الوحدة. في الداخل، وجدت سريرين يجري استخدامهما باستمرار من جانب الأطباء بسبب النقص في الوحدات السكنية، إضافة إلى «معمل» صغير. وقد وقفت دون حراك أمام مشهد ذباب متعطش دخل إلى الحجرة عبر النافذة وأطفأ عطشه من عينات دم يجري اختبارها.

وساورني شعور بفزع بالغ من أن أصاب بفيروس أو مرض وأنقله لأسرتي وأصدقائي بلبنان أو أحمله معي لدى عودتي إلى الولايات المتحدة. ولكنني لا أملك إلا أن أبدي إعجابي واحترامي لذلك الطبيب الذي كان يخاطر بحياته كل يوم، ويعمل تحت ذلك الحر القائظ، ولا يواسيه سوى الإحساس بأنه يساعد المرضى من ذوي الحالات الحرجة الذين كان يقوم بنقلهم إلى المستشفيات المجاورة على مدار الساعة.

المؤكد أن إعادة تشييد المستشفيات والوحدات العلاجية وتوفير التعليم الصحي والعادات الصحية الشخصية أمر بالغ الأهمية لنهر البارد.

وبمعاونة المجتمع الدولي، تمكنت الكثير من المحلات في نهر البارد من إعادة فتح أبوابها، بما في ذلك مخابز ومحلات بقالة وصيدليات، بل ومقاهي إنترنت ومحلات لبيع الهواتف الجوالة ومحلات أخرى عديدة. إلا أن نقاط التفتيش الأمنية تخنق جهود استعادة النشاط الاقتصادي بالمنطقة علما بأن نهر البارد كان معروفا بصلاته التجارية والاجتماعية الممتازة مع المناطق المجاورة. إضافة إلى ذلك، فإن الأضرار المعنوية المترتبة على الوضع الراهن فادحة للغاية لدرجة دفعت بعض الفلسطينيين لوصف ما يجري هناك بأنه «نكبة» جديدة.

قطعا، نحن مدينون لهؤلاء الفلسطينيين بطرح تفسير لما جرى في نهر البارد. كذلك، ندين لأسر قرابة 200 جندي قتلوا في المعارك التي اندلعت هناك بتفسير.

ويجب ألا يتوقف السعي وراء كشف النقاب عن الحقيقة، وسيعود نهر البارد إلى الحياة مجددا. بمقدورك وضع سعر معين على قطع التحف، لكن آمال وأحلام آلاف اللاجئين الذين يحاصرهم اليأس لا تقدر بثمن. كما أن الحقيقة التي ستعزز الشفافية والمحاسبة، بحيث نتمكن من بناء لبنان لا تقدر هي الأخرى بثمن.

* أول لبنانية تفوز بزمالة جبران تويني في هارفارد.. وشاركت في لجان إعلامية وأخرى للإغاثة ترأسها رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة للتعامل

مع أزمة المخيم

عام 2007