الخوف الإسرائيلي من تقرير غولدستون

TT

أدت الحملة الشعبية الفلسطينية والعربية، ضد موقف السلطة الفلسطينية، عندما سحبت طلبها بمناقشة تقرير القاضي ريتشارد غولدستون، وتحويله إلى مجلس الأمن أو إلى محكمة لاهاي الدولية، إلى جملة نتائج متباينة.

نتيجة أولى سلبية: أدت إلى إضعاف سمعة ومكانة السلطة الفلسطينية، واهتزاز حتى مكانتها الداخلية، وبخاصة بعد أن ووجهت بنقد داخلي كثيف من قبل أجهزتها وكادراتها.

نتيجة ثانية إيجابية: أدت إلى أن تعيد السلطة النظر بموقفها، وأن تعود لتطلب مرة ثانية مناقشة تقرير غولدستون، وذلك من أجل امتصاص النقمة الشعبية التي برزت في الأيام الماضية بقوة. وولدت من رحم هذه النتيجة، نتيجة إيجابية أخرى، وهي أن طلب إعادة المناقشة، توسع وشمل بندا خاصا حول تصرفات إسرائيل الاستيطانية في القدس، وهو أمر طال عليه الصمت الفلسطيني والعربي، بحيث بات الصمت مدعاة للتساؤل.

ثم كانت هناك نتيجة ثالثة ملتبسة، فقد ارتبط اللغط حول موقف السلطة من تقرير غولدستون، بلغط آخر مماثل حول وثيقة المصالحة المصرية، هل توقع أم لا؟ فتعرضت المصالحة بذلك إلى هزة عميقة، سعت حركة حماس إلى تطويرها باتجاه إضافة بنود لوثيقة المصالحة تتضمن: حق المقاومة المسلحة، وتأكيد الحقوق والثوابت الفلسطينية التي لا يجوز لأية جهة فلسطينية أن تتنازل عنها. بينما سعت سلطة رام الله إلى تطويرها نحو التهديد بإجراء انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني تقتصر على الضفة الغربية في مطلع شهر كانون الثاني/يناير 2010، إذا ما أجلت حماس توقيعها على اتفاق المصالحة.

وربما يكون هذا التوجه الأخير الذي ورد على لسان الرئيس محمود عباس، هو الأخطر، باعتبار الشكوك القائمة بقوة، حول ما بدأ يوصف بأنه (أجهزة الضفة الغربية)، و(الحل السياسي في الضفة الغربية)، الذي يلغي وحدة القضية الفلسطينية، ويختزلها في بقعة جغرافية صغيرة.

وفي سياق هذا كله، تفاعلت قضية تقرير غولدستون داخل إسرائيل أيضا، وفي ما يلي بعض ما ورد في الصحافة الإسرائيلية حول مسرى هذا التفاعل، ومخاوف إسرائيل الشديدة من التقرير. يضاف إلى ذلك التركيز على بعض النتائج الأولية لأزمة التقرير، وفي مقدمتها تردي العلاقات الإسرائيلية مع تركيا.

وفي هذا الإطار، وتحت عنوان حرب الغولدات (جمع غولدستون)، كتب الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي في صحيفة «هآرتس» يوم 15/10/2009 مقالا عن منتقدي التقرير قال فيه:

«ها قد وجدنا المذنبين في كل شيء. إنهم الغولدستونيون. ليس الاحتلال، وليس المستوطنات، وليس استعمال القوة الإسرائيلية، بل هو غولدستون فحسب». يقولون «إن روح القاضي غولدستون هي التي ستجلب علينا الحرب المقبلة، وستسمى في إسرائيل حرب غولدستون». وهو يرد عليهم ويقول «منذ قالت غولدا مئير إننا لن نسامح العرب أبدا لأنهم يجعلوننا نقتل أبناءهم، لم نسمع ها هنا أقوالا سيئة ومنافقة ومثيرة للغضب، مثل هذه الأقوال الجديدة».

ويتساءل الكاتب: ماذا يفعل هؤلاء الغولدات؟ ويقول «يفعل الغولدات كل شيء كي لا يتوصلوا إلى تسوية. إنهم يتباكون ويجعلون أنفسهم ضحايا، يقولون إن إسرائيل تتعرض للهجوم من قبل الإرهابيين بلا انقطاع. كذلك يتجاهل الغولدات حصار غزة (قبل العدوان الأخير)، وكأنه لم يكن هو الدافع الرئيسي لصواريخ القسام». ويقول الغولدات «حتى نمنع تدهور الفوضى إلى فوضى عارمة، تحتاج إسرائيل إلى استخدام القوة مرة كل بضع سنين، وينسى هؤلاء أن هذه الحروب ليست أكثر من حروب تعزيز للاحتلال، وحروب عقارات، يجب الخروج للحرب مرة كل بضع سنين للحفاظ عليها».

ويختم الكاتب قائلا: «غولدستون قاض دولي ذو جلالة، ليبرالي شجاع ومحارب من أجل حقوق الإنسان، ورجل ضمير جرؤ على أن يفعل هنا، ما سبق وفعله في رواندا ويوغسلافيا. هناك هتفوا له، وهنا يتهمونه بالمسؤولية عن الحرب المقبلة. إن من عزل إسرائيل هو الحكومة والجيش الإسرائيلي وجوقة مشجعيهما، وليس غولدستون.

كاتب آخر هو سلفر تسكر من «يديعوت أحرونوت»، كتب مقالا يوم 15/10/2009 قال فيه:

«من زاوية نظر سياسية، أثارت عملية الرصاص المصبوب (اسم العملية ضد غزة) نتائج مدمرة. منذ سنوات لم يكن وضعنا الدبلوماسي بمثل هذا التردي الذي هو عليه اليوم. ويحتمل جدا أن نصل في نهاية المطاف إلى المحكمة في لاهاي. وهنا يمكننا أن نصرخ: ظلم. ازدواجية. لا سامية. ولكن الصراخ لن يجدي نفعا. كرة الثلج باتت تتدحرج، ومشكوك فيه أن يكون بوسع أحد وقفها. حبذا لو كنت مخطئا، ولكن إصدار أمر اعتقال دولي ضد أي من زعماء إسرائيل أمر قد يحصل، مثلما أوضح نتنياهو في خطابه أمام الكنيست.

ويضيف الكاتب: حتى لو لم يصل أحد من إسرائيل للمحاكمة في لاهاي، سيبقى تقرير غولدستون مطبوعا في وعي النخب الثقافية في الغرب، وفي وعي الجماهير المحرضة في العالم الإسلامي. لائحة الاتهام هذه ضد إسرائيل من أخطر ما كتب على الإطلاق، ستلاحقنا على مدى السنين. لا يوجد ما يمحو وصمة العار التي تركها هذا التقرير على جبيننا.

وكتب آري شافيت مقالا آخر بعنوان جبل الجليد في «هآرتس» يوم 15/10/2009 قال فيه:

«الوضع اليوم ليس على ما يرام. لأنه تحت الماء الهادئ الذي تبحر فوقه السفينة الإسرائيلية، يوجد جبل جليد. كان تقرير غولدستون أول ظهور لجبل الجليد. وكانت إدارة الظهر التركية (إلغاء مشاركة إسرائيل في مناورات مشتركة) ظهورا آخر لجبل الجليد. ومطاردة ضباط الجيش الإسرائيلي في أوروبا هي الظهور الثالث لجبل الجليد. ومقاطعة منتوجات إسرائيلية وشركات إسرائيلية في أماكن مختلفة في العالم، الظهور الرابع لجبل الجليد.. في كل أسبوع وفي كل يوم تقريبا، يظهر الجبل الجليدي وجهه.. وجبل الجليد هو فقدان إسرائيل شرعيتها.

ثم برز حول التقرير ومعه، موضوع آخر، يتعلق بتركيا. وكان هناك غضب إسرائيلي كبير حين أقدمت تركيا على منع إسرائيل من المشاركة في المناورة العسكرية الدولية الكبيرة. وثار غضب إسرائيلي أكبر حين قررت تركيا إجراء مناورات مشتركة مع الجيش السوري («يديعوت أحرونوت» 14/10).

وذكرت الصحيفة أن «محافل أمنية في إسرائيل انتقدت ما يلوح كشهر عسل بين دمشق وأنقرة»، وقالت هذه المحافل إن «موافقة تركيا على إجراء مناورة مشتركة مع سورية هو خطأ يضاف إلى خطأ إلغاء المناورة مع إسرائيل. وتعبر هذه الموافقة أكثر من أي شيء آخر عن ضائقة وعن تهور، فهم يبتعدون عن الغرب. ولا ريب أن في إسرائيل وبالأساس في جهاز الأمن سيتعين عليهم أن يقوموا الوضع من جديد في ما يتعلق بمنظومة العلاقات مع أنقرة». وقالت الصحيفة «انطلقت في إطار جهاز الأمن أصوات متعددة عن كيفية الرد على الأزمة، فبينما حاول وزير الدفاع إيهود باراك تهدئة الخواطر، قالت محافل أخرى في وزارته إن الانبطاح أمام الأتراك لن يجدي نفعا في هذه المرحلة، وذلك لأن الحكومة في أنقرة مصممة على هجر التحالف مع إسرائيل وتسخين علاقاتها مع سورية ومع إيران».

وختمت الصحيفة قائلة «علم أمس أن تركيا أوقفت مؤخرا عدة مجالات تعاون حساسة جدا مع إسرائيل في مجالات الاستخبارات، وألغت أيضا صفقات أمنية مع إسرائيل كصفقة الأقمار الصناعية. كما أن إسرائيل (بردت) من جهتها علاقاتها الأمنية مع الأتراك، بسبب تخوفها من أن تتسرب التكنولوجيا الإسرائيلية إلى الأيادي غير الصحيحة».

وبهذا تكون قنبلة فوسفورية في غزة، قتلت مدنيا، قد تحولت إلى مشكلة دولية، وهددت مصير أطراف سياسية، وحولت دولة تتباهى بقوتها إلى دولة يخاف قادتها من الملاحقة الأمنية. وغيرت في علاقات الدول الإقليمية. ويبقى أن يرتقي السياسي العربي إلى مستوى إدراك قيمة هذه التغيرات.