أمريكا وملف جوار العراق

TT

لا شك أن العراق لم يعد موضوعا مهيمنا على جدول أعمال إدارة الرئيس الأمريكي أوباما، كما كان في عهد الرئيس بوش، فإصلاح الوضع الداخلي وتجاوز آثار الأزمة الاقتصادية وتحسين صورة الولايات المتحدة في الخارج أصبح هو الموضوع الأساسي لسياسة إدارة أوباما، فضلا عن تحول الاهتمام إلى أفغانستان حيث اعتبرت هي التحدي الأساسي للإرهاب، في السابق كانت إدارة الرئيس بوش تسعى جاهدة لتحقيق الاستقرار فيه من خلال زيادة عديد الجيش الأمريكي وتجنيد الصحوات إلى جانبهم ودعم عقد المؤتمرات الدورية مع دول جوار العراق من أجل إرساء الأمن في العراق، أما اليوم وفي عهد الرئيس أوباما فقد اختلف الأمر إذ ترك العراق ليستقر من تلقاء نفسه، أي بترك الأمور تسري بالشكل الطبيعي ليتحقق الأمن اعتمادا على ذاته، لذا فالحكومة العراقية الآن من مصلحتها بكل ما تملكه من مقومات وجهد لتحقيق الاستقرار الأمني اعتمادا على ذاتها وليس على القوات الأمريكية، أو بعبارة أخرى ربما تكون الأهمية اليوم هي في العمل على دمج كل المكونات العراقية دون تهميش أي منها وإشراكها بفاعلية في إدارة الدولة إذ إن الصراع الآن في العراق وإن ظهر بين المكونات والنخب السياسية هو صراع من أجل تقاسم السلطة والثروة وليس من أجل إنهاء الاحتلال والنفوذ الأمريكي أو من أجل المزايدة برفع الشعارات الأكثر وطنية، لذا فإن إعطاء المكونات الأساسية والأقليات نسبة من السلطة والثروة كفيل بتحقيق الاستقرار والابتعاد عن العنف، لذا فبعد أن ساعدت القوات الأمريكية على اعتدال سلوك المجموعات المعارضة الرئيسية بنزع أسنانها، فإن دورها اللاحق أن تكون مستعدة للحفاظ على موقعها كوسيط نزيه بين هذه المجموعات دون الحاجة إلى قوة عسكرية كبيرة على الأرض.

الدور الثاني الموازي هو التفاهم مع دول الجوار الإقليمي العربي وغير العربي لتحقيق الاستقرار في العراق لجهة أن أمنهم مرتبط بإرساء الأمن في العراق وللمخاوف من تنامي النزعات الاستقلالية أو المطلبية لمجموعات عراقية من شأنها أن تحفز نظراءها في دول المنطقة، وهنا ربما يبدو ظاهريا أن انسحابا أمريكيا من العراق قد يساعد دول الإقليم على تحسين دعمها للعراق وأن تسهم بتعزيز استقراره، ولكن الأهم منها بالنسبة لهذه الدول هو مستقبل تطور وشكل الحكومة العراقية ومستقبل المصالحة والإدماج الحقوقي والمصلحي للمكونات العراقية، فعراق يهيمن عليه الشيعة سيستعدي الدول العربية، وعراق خاضع للنفوذ الأمريكي سيستثير إيران، وعراق ضعيف المركز سيخيف كل بلد غير متجانس مجتمعيا ويختزن مشاكل أقلوية، لذا فيغدو المطمئن الوحيد هو تطور عراق ذي توجه وطني ومستقل يمتلك القوة لحفظ وحدته لكن دون أن تتعدى ذلك لإخافة أو تهديد جيرانه. هذا بشكل عام على مستوى كل دول إقليم العراق، أما الخاص فلا شك هو التحرك على جوار العراق وتحديدا على الدول التي لها القدرة والدافع للتدخل في الشؤون العراقية، وهنا لا ريب أن الأكثر انغماسا لامتلاكهم هذه القدرة والدافعية هما إيران وسورية.

وهنا تتجلى بوضوح تغير مقاربة الإدارة الأمريكية الحالية، فقد برزت وأظهرت الأزمة العراقية – السورية بوضوح هذا التغير، حيث فضلت إدارة أوباما الحياد في هذه الأزمة واعتبرتها شأنا داخليا بين الدولتين خاذلة بذلك الحليف العراقي في أول مواجهة له مع جواره في مسألة تخص أمنه واستقراره، فهي خذلت البلد المهدد بإفشال تجربته الديمقراطية التي يشقها بصعوبة في بيئة غير ملائمة، ربما عزت الإدارة الأمريكية ذلك لغياب الأدلة المقنعة والكافية وعدم اليقينية بارتباط هذه التفجيرات الأخيرة بسورية وبتفضيل التعويل على الدور السوري في ضبط الحدود مع العراق والتعاون في قضايا الإرهاب وفي الإحجام عن التدخل في شؤونه كما في الملفين اللبناني والفلسطيني، ولكن هناك أيضا من يرى أن من شأن هذا الخذلان لبلد حليف بنيت تجربته بدماء الآلاف من الضحايا من العراقيين والأمريكان وبخسائر مالية ضخمة أن يقوض من مصداقية أمريكا في أن تكون حليفا مأمولا ويعول عليه لأي تجربة تغيير أخرى واعدة، ومن جهة ثانية أن ليس هناك من إشارات جدية للآن على أي تغيير محسوس أو استجابة للضغوط اللينة والحوافز في أي من الملفات الثلاثة سواء في لبنان وفلسطين ناهيك عن العراق.

وكذلك الأمر لجهة التعاطي مع إيران فإن هناك محاولات أيضا على مستويات عدة ومنذ فترة لخفض التوترات معها، بهدف حملها على دعم خفض العنف في العراق والحفاظ على استقراره، لا سيما أن إيران لها مصلحة في عراق مستقر، ولكن أيضا ليس هناك ما يضمن تعاون إيران في هذا الأمر، ولكنها ربما قد تفعل ذلك إذا ما تم ضمان حزمة كاملة من القضايا والمسائل بينها وبين الولايات المتحدة وبأنها ستكسب نفوذا بالاعتراف بدورها الإقليمي في الشرق الأوسط وبتخلي أمريكا عن شعاراتها السابقة لإسقاط الحكومة الدينية في إيران.

العراق الذي يبدو مبحرا بعكس ريح قد تغيرت اتجاهاتها، ولكن لتشابك ما هو داخلي فيه مع ما هو خارجي، فإن للتراجع أكلافه لهذا فهو اختار المضي بالمجابهة والذهاب لمبدأ التدويل وعدم الركون إلى الوساطات الإقليمية مفضلا الشركاء والحلفاء الدوليين واللجوء لمجلس الأمن والتحكيم الدولي متجاوزا المنظمة العربية التي لم تقدم لا هي ولا مؤتمرات جوار العراق حلا موثوقا لإيقاف مسلسل التدخل في شؤونه وتصدير العنف له، باعتبار أن المسألة ليست نوايا طيبة، بل هي مصالح متشابكة، حيث إن للاستقرار في العراق أثمانه التي يجب أن تدفع، لكن السؤال هو هل تكفي سلة الحوافز الأمريكية لذلك؟