لماذا وصل لبنان إلى ما وصل إليه؟

TT

دخلت أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية شهرها الرابع، وحق للجميع التساؤل عما إذا كان هناك أزمة وزارية أم أزمة نظام، أم أزمة وطن. وغدا أو بعد غد, عندما ستتألف الحكومة المنتظرة, سوف تبقى هذه التساؤلات مطروحة. أيا كان شكل هذه الحكومة وكانت أسماء أعضائها.

لقد كان لبنان قدوة بين الدول العربية في نظامه الديموقراطي البرلماني، وتعايش طوائفه وحرياته، رغم الانتكاسات والنزاعات الدامية التي مر بها. وها هو اليوم أسير ديموقراطيته ورهين حرياته وسجين تطيف أحزابه. فلماذا, تُرى، وصلت السياسة في لبنان إلى هذا الواقع المقلق؟

لقد تبارت العقول والأقلام في البحث عن أسباب هذا الضياع السياسي، العضوية منها والظرفية والموضوعية والإقليمية والدولية والتاريخية والجغرافية. وركزت بنوع خاص على النظام الطائفي السياسي الذي يعطل تبلور شعور الوطنية والمواطنية عند اللبنانيين. وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان. ولكن لبنان عرف، على الرغم من هذا النظام, لحظات وطنية رائعة, وأياما ديموقراطية مشهودة, مكنته من الخروج من محن وأزمات خطيرة, رغم حواجز الطائفية السياسية الفاصلة والمفرقة.

هناك، إذن, سر أو أسرار أخرى، وراء تعثر تأليف الحكومة اللبنانية، بل وراء كل الأزمات والمحن التي تعرض ويتعرض لها، بالإضافة إلى الطائفية السياسية.

هناك أسباب اقتصادية وسوسيولوجية وثقافية وأخلاقية وعقائدية، تحرك وتتلاعب بنفوس وعقول وقلوب وأهواء اللبنانيين، من ضمن الانقسامات الطائفية، أو من حولها. فالاقتصاد اللبناني ليس اقتصادا إنتاجيا صناعيا وزراعيا، بل هو أقرب إلى اقتصاد خدمات وسياحة وتجارة صغيرة ونوع من الريعية الفريدة. أكثر من ثلث عائلاته موظفون عند الدولة, ونصف ميزانه المالي يأتي من الأموال التي يرسلها اللبنانيون المهاجرون العاملون في دول الخليج وأفريقيا والعالم. وهناك صراع طبقي ـ ولو خفي أو غير واضح ـ بين مناطقه الريفية ومدنه, بين طبقة وسطى واسعة وطبقة غنية لا تتجاوز نسبتها الأربعة في المائة. وهناك ثلاث ثقافات تجتذب أبناءه: العربية والفرنسية والأنغلو ـ أميركية. وهناك «العصبيات» ـ رحم الله ابن خلدون ـ في أشكالها العائلية والمناطقية والمذهبية وحتى الحزبية العقائدية. وهناك النزعة المركنتيلية، وحب الظهور والتميز، وحب السلطة وغريزة عصيانها، في آن معا. وهناك ارتباطات وارتهانات تاريخية أو عضوية أو سياسية بين الأحزاب في لبنان ودول إقليمية وغربية، تحركها في اتجاهات متناقضة، وبعيدة عن مصالح وأماني اللبنانيين. وكل هذه العوامل والخلفيات تعطل أو تشوه مفهوم الوطنية وثقافة الديموقراطية. وربما أكثر من النظام السياسي الطائفي.

رب قائل بأن كل أو معظم هذه العوامل موجودة في معظم بلدان العالم وليست خاصة بلبنان. ربما. ولكن ثمة دولا نجحت في التأليف بينها والتخفيف من حدة تصادمها في إطار نظام سياسي شفاف ديموقراطي عادل، وأخرى عطلت أو ضبطت تصادم تلك العوامل بواسطة نظام حكم سلطوي أو بوليسي صارم. أما الدول الباقية فإنها كلبنان عانت ولا تزال من تصادم تلك العوامل وشراراتها.

إن قيام نظام دكتاتوري أو عسكري سلطوي في لبنان صعب جدا، بل مستحيل، بسبب تعددية طوائفه ومذاهبه. ولكن استمرار الأوضاع السياسية الراهنة، حتى دون تفجر وتقاتل، مشكلة لا يتحملها لبنان واللبنانيون. فما العمل؟

«العودة إلى الكتاب» ـ أي الدستور، كما كان يقول الرئيس اللبناني الأسبق فؤاد شهاب. ولكن أي دستور؟ دستور اتفاق الطائف أم دستور اتفاقية الدوحة؟ دستور «الوفاق الوطني والمشاركة», أم دستور حكم الأكثرية الديموقراطي البرلماني؟ دستور «المقاومة» أم دستور «السيادة والاستقلال»؟ دستور الالتزام بالقرارات الدولية وشرعيتها، أم دستور حق حزب الله في الاحتفاظ بسلاحه إلى أن تتحرر فلسطين؟

صحيح أن وقوع لبنان جغرافيا بين سوريا وإسرائيل، لا يتيح له حرية واسعة في تقرير مصيره، بعيدا عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، كما هو حال أستراليا أو نيوزلاندا الواقعتين في أقاصي المحيط الهادي. ولكن ما تريده سوريا من لبنان قد يكون فوق طاقة اللبنانيين على العطاء والتضحية. وما تشكله إسرائيل من خطر، لا يمكن للبنان أن يتحمل صده وحده. وما دام الصراع العربي ـ الإسرائيلي مستمرا، فإن لبنان، لسوء الحظ, لن يعرف الاستقرار ولن يبدأ ببناء الدولة الحديثة. بل سيبقى ساحة مفتوحة للنزاعات الكبيرة والمغامرات الصغيرة, التي قد تنشب في المنطقة.

وفي هذه الساحة المفتوحة، يصبح كل قرار وطني أو خطوة سياسية، موضوعا لأزمة.

وكل تأليف حكومة، هدنة مؤقتة بين المتنازعين على حكم لبنان.