في الواقع والخيال

TT

منذ أيام وأنا أحاول النظر في أعماقي للعثور على إجابة لسؤال بالغ الصعوبة: هل أنا امرأة غيورة؟ هل لفحتني نيران الغيرة وأنا طفلة وصبية وشابة؟ وما هي المواقف التي ألقت بي في أتون ذلك الإحساس المدمر بالعجز والنقص وعدم الأمان؟

ألح عليّ السؤال لعدة أسباب منها أن نقاشا دار في إحدى حلقات برنامج أشارك في تقديمه عن شابة كويتية في الثالثة والعشرين تزوج زوجها عليها، فما كان منها إلا أن أشعلت النار في المكان الذي أقيم فيه حفل عرس الزوج، فأتت النيران على عدد كبير من المدعوين والمدعوات، ولم يكن لهؤلاء في أمر الزواج ناقة ولا جمل.

وكأن موضوع الغيرة أبى إلا أن يمسك بتلابيبي، دفعتني الصدفة لمشاهدة حلقات من مسلسل الرحايا الذي قام ببطولته نور الشريف. وفي المسلسل الذي اجتمعت فيه كل مقومات العمل الفني المتقن تحولت الزوجة الصعيدية سوسن بدر من أنثى إلى شيطان مارد يسعى للانتقام حين هجرها زوجها عشر سنوات، وقضت التقاليد والظروف الاقتصادية للنساء بأن تنتظر الزوجة عودة زوجها بصبر جميل. وحين عاد، عاد وهو معرض عن وصالها. وبعد استمراره في هجرها اكتشفت انه تزوج بأخرى وأنجب الولد، بينما لم يثمر زواجها به إلا عن ابنة أنثى. وفي الصعيد الأنثى لا ترث ولا حق لها إلا المأوى والمأكل، والذكر يرث كل شيء رغم أن هذا السلوك بعيد كل البعد عن تعاليم الإسلام. ومن هنا تحولت تلك الزوجة إلى كائن غاضب شرس مغلوب لا يمكن أن يحقق العدل إلا بانتقام خبيث تحت جنح الظلام. فقتلت وهي تظن أن الانتقام حق تكفله لها الموروثات الكريهة عن الثأر وانتزاع الحقوق بالقوة إذا لزم الأمر.

في كلتا الحالتين: الواقعية في الكويت، والافتراضية دراميا في المسلسل، الدوافع الإجرامية نابعة من سيكولوجية قهر يغذيها غضب مدمر. والأبحاث النفسية تؤكد ذلك. ففي غالبية حالات تفجر الغيرة تفور المشاعر وتنسكب بقوة يمكن أن تدمر خلايا المخ وتلغي كل قدرة على التفكير المنطقي العاقل. وينتج عن ذلك سلوك لا يحقق رغبات الغيور بل يقذف به بعيدا عن كل ما يتمنى. وقد اتفق علماء النفس على أن الغيرة هي أكثر المشاعر الإنسانية سلبية لأنها تدفع المصاب بها إلى القتل أحيانا.

والغيرة مثلها كمثل كافة العناصر التي تدخل في تكوين الوعي، لا تتوقف عند عتبات الخوف والهجر والخسران والغضب والخيانة والحسد والإذلال. فهي عملة ذات وجهين. الوجه الآخر لا يطفو على السطح إلا قليلا. ويعتمد بالدرجة الأولى على الأدوات الدفاعية المتوفرة للفرد وعلى درجة ثباته وإحساسه بالذات المستقلة. وفي تلك الحالات لا تتفجر الغيرة باتجاه الهدم والتدمير. فكلما زاد إحساس الفرد بالثقة والأمان وظف مشاعر الغيرة بسلوكيات بناءة. وبدلا من التراشق بالاتهام وتهديد الطرف المذنب بالويل والثبور وعظائم الأمور تصبح الغيرة إشارة للمصاب بها لكي ينظر في دواخله ويبحث عن مواطن القصور ويحاول أن يصححها بدلا من تحول الخوف من خيانة زوج أو حبيب إلى هاجس. ومن هنا يتبدى أنها عاطفة ضرورية للبقاء، لكنها كملح الطعام القليل منه صحي ومفيد، والكثير منه مفسد وجالب للمرض.

اعتقد أنني منذ بداياتي اكتشفت وسيلة للتعامل مع أعراض الغيرة كلما أطلت برأسها على عالمي. لكن هذا موضوع لمقال آخر.