هزيمة يا لورد!

TT

«حرب أكتوبر 1973 كانت هزيمة لمصر»، هكذا وبكل فجاجة قالها اللورد ديفيد أوين وزير خارجية بريطانيا الأسبق أثناء محاضرة له بالجامعة الأميركية بالقاهرة يوم الأربعاء الماضي، حيث حل ضيفا على الأستاذ محمد حسنين هيكل ومؤسسته الصحفية. وكان دليل السيد أوين هو أن الدبابات الإسرائيلية كانت على مشارف القاهرة أثناء حرب أكتوبر 1973، وأن المفاوضات عقدت في الكيلو 101 على الجبهة الغربية من القناة، وكل هذا يعد مؤشرا واضحا على هزيمة مصر العسكرية في تلك الحرب. أو كما قال. وليس معروفا عن اللورد أوين أنه خبير عسكري يعتد برأيه في مسائل النصر والهزيمة، ولكنه كان وزيرا لخارجية بريطانيا في الفترة من 1977 إلى عام 1979 لذا يجب أن يؤخذ كلامه على محمل الجد، وأن يناقش بجدية.

بغض النظر عما حدث من تكتيكات عسكرية في تلك الحرب والتي نراها كمصريين نصرا حقيقيا على إسرائيل، أذكر اللورد أوين بأن الهدف السياسي والاستراتيجي لحرب أكتوبر بالنسبة للقيادة المصرية كان هو تحرير سيناء، والنتيجة النهائية تقول إن أولى نتائج حرب أكتوبر كانت تحرير التراب المصري بكامله من الاحتلال الإسرائيلي، بينما دخلت إسرائيل الحرب من أجل الاحتفاظ بتلك الأرض، وفشلت في تحقيق هدفها الاستراتيجي هذا، وهكذا تقيّم نتائج الحروب من خلال تحقيق أهدافها، فهي ليست حلبة ملاكمة يقاس فيها النصر والهزيمة بمن «أخذ علقة ساخنة»، نتائج الحروب هي التي تحدد من هو المنتصر ومن هو المهزوم. سيناء اليوم تحت السيادة المصرية لا السيادة الإسرائيلية، وهذه هي نتيجة حرب أكتوبر الواضحة للعيان والتي لا يمكن إنكارها.

من عدم اللياقة أن يأتي وزير خارجية بريطانيا الأسبق ويصب «جردل ميه باردة» على الاحتفالات المصرية، ويقول للمصريين، وتحت مظلة مؤسسة هيكل، بأن مصر قد هُزمت في تلك الحرب، مقولة لم يقلها حتى الإسرائيليون أنفسهم.

إن النصر السيكولوجي والنفسي الذي تحقق للمصريين في هذه الحرب من أهم إنجازاتها بعيدة المدى. فالجيش المصري استطاع وإلى الأبد كسر أسطورة الأمن الإسرائيلي المرتبطة بالبحر الأحمر، ففي التركيبة النفسية الإسرائيلية، اعتمادا على النص التوراتي، اطمئنان إلى أن البحر الأحمر الذي انشق لموسى، عليه السلام، قادر على ابتلاع الفرعون وجنوده في كل زمان ومكان. لكن العبور المصري للقناة يوم السادس من أكتوبر، والذي لم يصاحبه غرق المصريين في ماء البحر كما حدث لفرعون في السابق، هز اطمئنان الإسرائيليين، فتلك كانت معجزة خاصة بسيدنا موسى ولا تنطبق على الإسرائيليين اليوم.

إن عبور المصريين لقناة السويس هو تجربة عسكرية تدرّس في كل كليات الحرب في العالم على أنها تجربة فريدة في الحروب، وأن ما قام به المصريون من عبور للقناة واحتفاظ بالأرض شرق القناة حتى لحظة مفاوضات فك الاشتباك لهو أمر مهم في رسم ملامح هذا النصر، كما أن البرتوكول العسكري لمعاهدة كامب ديفيد التي وقعتها إسرائيل يوضح بما لا يدع مجالا للشك من كان المنتصر في هذه الحرب فكل الأراضي التي كانت تحت سيطرة الجيش المصري وحدود المنطقة ألف في هذا البرتوكول تقول بوضوح إن مصر سيطرت في هذه الحرب على الممرات وأن حدود المنطقة ألف يمتد من الشيخ زويد شمالا حتى شرم الشيخ جنوبا، هذا البرتوكول لا يعكس أن القوات العسكرية الإسرائيلية كانت على حدود القاهرة، كما يدعي اللورد أوين.

المشكلة ليست في كلام ديفيد أوين، أو أي خبير أو مسؤول غربي، ينبهر به جماعتنا ممن كانوا يرون الغرب على طريقة ناس زمان، المشكلة فينا نحن الذين نستضيف من يدّعون الخبرة من دون نقاش. كان من المنطقي الاستماع لديفيد أوين لو أنه تحدث عن الدور البريطاني في حرب 1973، بصفته كان وزيرا للخارجية البريطانية في الفترة التي كانت تجري فيها مصر مع إسرائيل اتفاق السلام، ربما كان لكلامه معنى لو تحدث عن هذه الفترة، أما حديثه عن العسكرية المصرية وتكتيكاتها في تلك الحرب فهو كلام هواة لا يعتد به. ولكن كما ذكرت فلدينا مجموعة من البشر ممن تصدق كل ما يأتي من اللورد الفلاني أو السير العلاني. ولو تسنى لك عزيزي القارئ، العيش في بريطانيا لمدة معقولة، لوجدت أن عدد اللوردات والسيور في المملكة المتحدة أكثر من عدد سائقي التاكسي في لندن، وكثرة عددهم لا تنفي أن لديهم أحيانا ما يستحق الاستماع إليه، ولكن أن نصدق أي شيء يقولونه، فهذا موقف من تربوا في عشرينات القرن الماضي وما زالت تبهرهم بريطانيا العظمى ورجالاتها من السير ماكماهون إلى اللورد كرومر حتى اللورد أوين.

اللوم يقع على الجيل الجديد من أبناء مصر ممن أضفوا على اللورد أوين تلك الهالة واستمعوا إلى محاضرته في الجامعة الأميركية من دون أن يناقشوه بجدية فيما قال. ولو ألقى أوين هذه المغالطة التاريخية هنا في لندن لما سلم من النقد الجاد، ولربما لم يسمح له بالحديث في موضوع ليس من صميم تخصصه.

الغريب في الأمر أن أوين أهان الجيش المصري بنكران انتصاره في أكتوبر 1973، ولم يتفوه أحد من مدعي الوطنية في مصر، لأن اللورد جاء في حماية هيكل الذي هو بالنسبة لكثير من الصحافيين المصريين بمثابة الإمام المعصوم من الخطأ، أو كما أسميته في مقال سابق (آية الله العلماني) الذي يطوف حوله دراويشه ومريدوه من رجال ونساء الصحافة في مصر كما يطوف المؤمن بقبة شيخ أو مزار ولي.

إن ما قاله اللورد أوين وهو في ضيافة الأستاذ هيكل في أرض الكنانة، كلام لا يجب السكوت عليه، وكان الأولى أن يرد عليه الأستاذ هيكل نفسه أو أي من أساطين الصحافة الجالسين في الصفوف الأولى في قاعة الجامعة الأميركية. وكنا نظن أنه قد انتهى عهد استيراد لوردات من الخارج ليقولوا كلاما يبهرون به الداخل من أجل خدمة أغراض شخصية محدودة القيمة على حساب تاريخ وطن وتاريخ نضال توج باسترجاع الأرض التي كانت محتلة. ليست لديّ مشكلة في أن يختلف المصريون وغيرهم في تحليل ما حدث، ولكن تزوير الحقائق أمر غير مقبول. حرب أكتوبر يا لورد لم تكن هزيمة لمصر، حتى لو كنت تتمنى ذلك، ولكنها بالنظر إلى النتائج النهائية كانت نصرا استراتيجيا حقيقيا لمصر.. ولنحتكم إلى الحقائق لا إلى الأمنيات.