ثلاثة أحداث واستنتاج!

TT

إن موافقة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على تقرير القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون بشأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، رغم الانتقادات الأميركية والبريطانية، ورغم اعتراضات واشنطن المتكررة على التقرير، ورغم تهديدات إسرائيل، ورغم ما تعرض له التقرير من تأجيل وتأخير وتأويل، يري دون شك أن العالم قد تغير، وأن أصحاب الضمائر الحية قد بدأوا يضيقون ذرعا بالمجرمين وبجرائم الحرب التي يرتكبونها، خاصة الجرائم التي يرتكبها حكام إسرائيل وجيشها ومخابراتها كل يوم ومنذ أكثر من ستين عاما ضد المدنيين العزل في فلسطين، كما يرى أنه رغم جهود إسرائيل المكثفة لمنع تسرب حقائق ما يجري على أرض غزة وفلسطين عموما إلى الإعلام العالمي، فقد بدأت بعض الحقائق عن الوحشية الإسرائيلية تتسرب، والتي لا يمكن لصاحب ضمير حر في العالم أن يقبل بها أو يتعايش معها حتى ولو كان يهوديا أو صديقا لإسرائيل.

واللافت في خلال الأيام الماضية التي سبقت التصويت على التقرير، أن السلطات الإسرائيلية تعاملت مع العالم وكأنه «فلسطينيون» عزّل؛ محذرين من الخطر الذي سيلحق بعملية السلام إذا تم تبني التقرير، وكأن عملية السلام موجودة، وكأن العالم لم يسمع تصريحات نتنياهو وليبرمان الرافضة لوقف الاستيطان، ولحق العودة، وكأن العالم لا يرى التهويد الجاري في القدس، والجرافات الإسرائيلية تهدم كل يوم منازل الفلسطينيين وتلقي بالعوائل إلى الشارع، أو تعمل لاستقدام المستوطنين الأجانب ليسكنوا في منازل الفلسطينيين الذين تطردهم سلطات القمع الإسرائيلية، وليعتدوا على المزارعين الفلسطينيين وليحرقوا ويجرفوا أشجار الزيتون.

لقد كسر العالم حاجز الخوف من الابتزاز الإسرائيلي للمعارضين لجرائمها بأنهم معادون للسامية، ولقد ضاق العالم ذرعا بالعقوبات الجماعية المفروضة على كل الشعب الفلسطيني وخاصة الحصار والحواجز، والمعاملة العنصرية المتمثلة بتهويد المناطق العربية.

وما تحاول إسرائيل فعله لدى افتضاح أمرها على الساحة الدولية، هو إما التهديد «بتعطيل عملية السلام» المعطلة أصلا، أو توجيه الاتهام جزافا بـ«معاداة السامية»، هذه التهديدات لم تعد مقنعة لأحد، وعلى مسؤوليها وضباطها منذ اليوم أن يحسبوا الملاحقة والمحاسبة الدولية قبل أن يرتكبوا جرائمهم ضد المدنيين.

وكالعادة تقوم إسرائيل وجماعات الضغط اليهودية وعملاؤها المنتشرون في وسائل الإعلام والأروقة البرلمانية والسياسية، بالتعبئة الدبلوماسية والسياسية والإعلامية، كلما تعرضت لانتقادات أو تقارير يمكن لها كشف حقيقة الجرائم التي ترتكبها ضد المدنيين، وتفرض التعتيم الإعلامي الشامل، وتمنع السياسيين من انتقادها علنا، وتمنع الإعلاميين من الوصول إلى مكان ارتكاب الجرائم.

هذا ما حدث حين نشر الصحفي السويدي بوستروم تحقيقاته عن قيام الجيش الإسرائيلي بقتل الشباب الفلسطيني من أجل سرقة أعضائهم والمتاجرة بها، والذي كان يهدف إلى فتح تحقيقات دولية عن هذه الممارسة الخطيرة والتي تعود إلى عقود، والتي وصلت خيوطها إلى الولايات المتحدة، حيث تورط حاخامات يهود بإقامة شبكات إجرامية للتجارة بالأعضاء البشرية، وبدلا من ذلك فقد أثارت إسرائيل ضجة إعلامية ضد الصحفي وضد بلده السويد ومنعته من دخول فلسطين المحتلة، وخلقت زوبعة إعلامية هدفها تحويل الأنظار عن هذه الجريمة البشعة، وبدلا من ذلك المطالبة بمحاسبة من كتب عن هذه الجريمة وحاول الكشف عن بشاعتها ومرتكبيها بغية وضع حد لها.

وبسبب غياب مرجعية عربية مقابلة تتابع هذا الملف في المحافل والمحاكم الدولية، وتتابع عملية كشف مثل هذه الجرائم ومحاسبة مرتكبيها من السياسيين والعسكريين وعناصر المخابرات الإسرائيلية المسؤولين عن جرائم الاغتيال والتعذيب والخطف وهدم المنازل وقصف المناطق المدنية وقتل المتظاهرين، قدم بوستروم أسماء وصور بعض الضحايا أملا باستكمال التحقيق كي يكشف عن مدى وزمن وخطورة وبشاعة هذه الجرائم، ولكن وبعد ضجة إعلامية إسرائيلية مركزة، بقي تقرير بوستروم في مكانه بعد أن تلقى تهديدات بالقتل وتواطأت إدارة الصحيفة بفصله من عمله، وسوف يحارب دون شك بلقمة عيشه، وهكذا فإن السلطات الإسرائيلية وعملاءها المنتشرين في وسائل الإعلام وجماعات الضغط والابتزاز المسماة باللوبي اليهودي، ولدى افتضاح جرائمها تغيب الوقائع على الأرض وتحول المسألة إلى تهمة جاهزة «العداء للسامية»، وذلك لمنع محاسبة المجرمين.

وفي هذا الصدد من المفيد أن نستذكر ما كانت تروجه إدارة الرئيس الأميركي السابق بوش من مزاعم كاذبة عن كره المسلمين للولايات المتحدة، وكان السؤال الإجرامي الذي يسأله في خطاباته «لماذا يكرهوننا؟»، واجهة لتبرير شن الحرب على العراق والتي راح ضحيتها مليون عراقي من المدنيين العزل، وليبرر الخطف والتعذيب والسجون السرية، ونستذكر أيضا الأموال والجهود التي بذلتها تلك الإدارة من أجل تحسين صورة الولايات المتحدة في العالم، واليوم وبعد أن انتخب رئيس للولايات المتحدة، يحترم الإسلام والمسلمين، تبيّن أن المشكلة لم تكن في المسلمين والعالم الإسلامي، ولم تكن أبدا في صراع حتمي بين الحضارات كما كانوا يروجون، بل في سياسات الإدارة الأميركية التي اعتمدت نهج شن الحروب والتعذيب والقتل والتدمير.

فكما أن الشعب الأميركي قد اكتشف اليوم أن أعمال بوش هي التي شوهت صورة أميركا في العالم، فقد بدأ العالم يكتشف أن أعمال حكام إسرائيل وجرائمهم ضد المدنيين الفلسطينيين، هي التي تدفع أصحاب الضمائر في العالم لإدانة هذه الجرائم والعمل على إيقافها، ولن تتمكن إسرائيل بعد اليوم من إشغال العالم بالابتزاز المكرور والذي يعود للحقبة النازية قبل سبعين عاما.

والشيء ذاته ينطبق اليوم على الضجة التي أثارتها إسرائيل حول المسلسل التركي «فراق» الذي يعرض لقطات فقط مما ترتكبه إسرائيل يوميا ضد الفلسطينيين من قتل للأطفال وتعذيب وإهانات وتنكيل على الحواجز العنصرية التي لا مثيل لها في العالم اليوم. وبدلا من شعور الإسرائيليين بالعار من قيام جيشهم بارتكاب هذه الجرائم، تعود إسرائيل إلى معالجتها، كالعادة، باستدعاء سفير تركيا لتعبّر عن احتجاجها على بث هذه اللقطات «وليس على الجرائم نفسها»، وتصف العمل التلفزيوني «وليس الجرائم» بـ«البربري» (انظر جريدة «الاندبندنت» البريطانية 16/10/ 2009). والسؤال هو هل يمكن للعمل التلفزيوني أن يكون بربريا وإرهابيا وعنيفا، أم أن جرائم قتل الأطفال التي يرتكبها الجنود الإسرائيليون يوميا هي البربرية بعينها وهي جرائم إرهابية ومشينة لمرتكبيها كائنا من كان؟

بدأت اللعبة تنجلي حين تركز إسرائيل على كذبة تخترعها مثل التصوير المزوّر لطير فليسه في لبنان، فقط لتبعد الأنظار عن تقرير غولدستون، فكانت كفاءة الكشف عن هذه الكذبة والتي للأسف التقطتها بعض وسائل الإعلام العربية وروجت لها كما هي، كانت بالمرصاد، وتم دفن هذه الكذبة فورا.

على الإعلام العربي الانتباه إلى توقيت وهدف الأخبار التي تبثها إسرائيل للتغطية على أخبار جرائمها، وعلى القائمين على وسائل الإعلام العربية عدم التورط بترويج الأكاذيب الدعائية الإسرائيلية فورا، بل يجب التروي والتدقيق والتحقيق قبل النشر. فمثلا أطلقت في حمأة النقاش حول تقرير غولدستون كذبة بأن حزب الله يتسلم مخزونه من السلاح، أو أن سورية تجدد وتوسع تسليحها، ولدى التفكير بمثل هذا الخبر يتبيّن أنه ليس خبرا على الإطلاق، فكل دول العالم تتابع تسليح ذاتها، كل الدول لديها بلدوزرات، ولكن البلدوزرات الإسرائيلية تهدم منازل الفلسطينيين كل يوم، والاعتراض ليس على امتلاك البلدوزر، وإنما على ما يفعله هذا البلدوزر ببيوت وحياة الناس.

ولكن ورغم كل الجهود التي تبذلها إسرائيل للتغطية على جرائمها، فقد اضطر وزير دفاعها إيهود باراك المتورط بجرائم اغتيال وحرب ضد المدنيين العزل، إلى حماية خاصة من رئيس الوزراء البريطاني براون، كي لا يتعرض للاعتقال والسجن. كما تعرض رئيس وزراء الكيان الغاصب أولمرت من قبل حشد من الطلاب في جامعة شيكاغو يدعون إلى إلغاء المحاضرة، مستغربين كيف يمكن لجامعة مثل شيكاغو أن تستضيف مجرم حرب لإلقاء محاضرة.

لقد انكسر حاجز الخوف، وبدأ أصحاب الضمير في العالم يضيقون ذرعا بحجم ومدى وخطورة الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وما نحتاج إليه اليوم هو حذر المسؤولين عن وسائل الإعلام العربية من التورط بنشر أخبار الدعاية الإسرائيلية، بل العمل على كشفها، وعلى ملاحقة مجرمي الحرب، من أجل إحقاق العدالة واحترام حقيقي لحياة الإنسان وحقوقه، كل إنسان، بما فيه الإنسان الفلسطيني والعربي والمسلم.

الاستنتاج هو أن العالم بدأ يتغير، وأنه لن ينتظر الإسرائيليين حتى يكتبوا بفخر واعتزاز عن جرائمهم، وكأنها إنجازات، كما فعل رئيس الأمن الإسرائيلي الأسبق آفي ديختر في محاضرته عن دور إسرائيل في تدمير العراق، بل لقد بدأ العالم بمحاسبة إسرائيل على جرائمها، ولكن على هذا المسار أن يستمر حتى يصل هدفه المنشود ويحقق العدالة للضحايا ويساعد الفلسطينيين على نيل الحرية والخلاص من آخر عبودية في التاريخ البشري.