تخيلوا.. لبنان يساهم في حل مشاكل العالم!

TT

وغير تقي يأمر الناس بالتقى

طبيب يداوي الناس وهو عليل

(أبو سليمان الواعظ)

مبروك.. أصبح لبنان عضوا في مجلس الأمن الدولي، وهذا يعني أنه سيساهم على امتداد سنتين في حل المشاكل العالمية، ولا سيما، تلك التي هي ذات طابع أمني معقّد.

هذه ليست نكتة، بل واقع عشناه في الأسبوع الفائت. ولكن يوم أول من أمس، لتتكامل صورة «النكتة» قرأت أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ـ أمدّ الله بعمره ـ اقترح على وزير الخارجية السوري وليد المعلّم مخرجاً لإشكالية مَن يشغل حقيبة وزارة الاتصالات في لبنان، وذلك بأن يختار رئيس الجمهورية ميشال سليمان الوزير المقبل، لكن شرط أن يحظى بقبول النائب ميشال عون. وقبل ذلك نُقل عن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان توقعه إنجاز تشكيل الحكومة اللبنانية العجيبة في غضون يومين أو ثلاثة.

جميل جداً.

للتذكير فقط، يُشاع ويذاع ويملأ الأسماع، من باريس وحليفتها الجديدة دمشق، ومن واشنطن إلى «عدوّتها» الحميمة طهران.. أن تشكيل الحكومة اللبنانية ـ المنتظر منذ يونيو (حزيران) الماضي ـ شأن لبناني داخلي، ولا تتدخل فيه العواصم الأجنبية. صدّق أو لا تصدّق!

ثم في عطلة نهاية الأسبوع، وفي أعقاب اجتماع آخر بين رئيس الحكومة المكلّف سعد الدين الحريري والنائب عون ـ الذي سبق له بدبلوماسيته المزلزلة أن وصفه بـ«النائب المكلف» وليس «الرئيس المكلّف» ـ سرّبت جهات مقرّبة من الفريقين أجواء تفاؤل. وجاءت هذه الأجواء المفتعلة بعد جولة «قصف» مطلبي عوني جديد على الطريقة «الحوثية» أقلقت البعض، ونبّهتهم إلى أن التحاليل السياسية التنبؤية لبعض الصحف السورية الموسومة بـ«المستقلة» قد يكون لها ما يبرّرها. أو أن مناخات التفاؤل التي خلقتها القمة السعودية السورية الأخيرة بولغ في تعجّل ثمارها.

أمر واحد أكيد.. هو أن مرض التفاؤل اللبناني بدأت تسري عدواه في المحيط العربي، الذي من كثرة أخطاء التقدير وتراجع الصدقية وعناد الجيران والخصوم واستكبارهم الفاقع.. بات مستعدا لتصديق أي شيء.. لعل الخيال يكون أصدق من الحقيقة.

إلا أن عالم السياسة الواقعية الحكيمة لا يعترف بنظريات الطيب الذكر الكوميدي المصري الراحل حسن فايق، صاحب عبارة «إكدب عليّ.. بس طمّني» الخالدة. ولا مجال اليوم، إزاء ما تخطّط له القيادة الليكودية في إسرائيل بعد نجاحها في تكبيل الإدارة الأميركية الديمقراطية، وما يحققه المخطط الإيراني من اختراقات فئوية داخل الجسم العربي المريض من العراق ولبنان إلى اليمن، للاستمرار في التصوّر أن تسمية الأمور بغير أسمائها الحقيقية قد يغيّر المخططات ويؤثر في التحالفات.

باختصار، في السياسة لا وجود للنية الحسنة، بل للعقل والمنطق والحذر. وكما يقول المثل الغربي «تحتاج رقصة التانغو لشخصين».. إذ لا يكفي أن يكون هناك راقص واحد متحمّس للرقص.

وحدها تركيا تبدو اليوم مدركة إمكانيات دورها الإقليمي، ووزنها البشري والديني والتاريخي والجغرافي والسياسي في المنطقة. فلا هي في حالة استقالة من مسؤولياتها كقوة إقليمية وازنة في الشرق الأوسط كحال العالم العربي المنقسم أشتاتاً وشراذم، ولا هي في حالة اقتحام انقلابي تدميري يمهّد لصفقة تقاسمية كبرى كحال إيران.

وقد يكون على بعض العرب ـ وبالذات، أولئك الذين يحرصون فعلا لا قولا على المصالح العربية ـ إجراء تفاهمات في العمق مع أنقره، بدلا من ترك قوى الانتهازية الإقليمية تسبقهم إلى استثمار رصيد أنقره الكبير الذي لا يمكن إلا أن يخدم التوازن الإقليمي ويضع حدوداً للعربدة الإسرائيلية.

في أواخر الأربعينات، عندما أوجدت إسرائيل، أسهم الشعور السلبي الذي شجعه «الكماليون» عند الشعب التركي عن خيانة العرب للدولة العثمانية قبيل الحرب العالمية الأولى، في جعل تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل. وظلت تركيا حليفاً مخلصاً للغرب، وعضواً فاعلا في حلف شمال الأطلسي (ناتو) ولفترة لا بأس بها في حلف «السنتو» (بغداد سابقاً) مع إيران الشاه وباكستان.. بينما كانت دول أوروبية مسيحية كاليونان وإسبانيا ترفض الاعتراف بالدولة اليهودية.

اليوم صورة «عرب خيانات» المشوّهة.. تتلاشى في الذاكرة السياسية التركية، بالتوازي مع الاضمحلال التدريجي لأحلام «أتاتورك» التغريبية التي لم تضمن لتركيا، رغم تضحياتها الجِسام للغرب إبان حقبة الحرب الباردة، موطئ قدم في الاتحاد الأوروبي.

وبوتيرة متساوية الزخم، ولكن في الاتجاه المعاكس، تكتشف أنقره لها في آسيا الوسطى والقوقاز والعالم العربي أرصدة قومية ودينية، وكذلك ثقافية واقتصادية، كانت قد أهملتها طويلا في سعيها وراء الحلم التغريبي المستحيل. وقد يمثّل اليوم وجود أشخاص بمستوى البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلو في موقعه الحساس بمنظمة المؤتمر الإسلامي، والدكتور أحمد داوود أوغلو بمنصب وزير الخارجية خير تعبير عن التوجّه التركي الجديد نحو الشرق، من دون تزمّت أو تعصّب.

فالمسألة مع تركيا، في النهاية، ليست فقط عودة قوى إسلامية ربحت الانتخابات تلو الانتخابات، على مختلف المستويات، إلى ثقافة ترتاح إليها وتؤمن بها. بل هي ـ وهذا عنصر لا يقل أهمية ـ أن هذه القوى وطنية أيضا، وتؤمن بأن الكرامة الوطنية والقومية لبلد يسكنه نحو 75 مليون نسمة لا يجوز أن تظل أسيرة ذليلة لعلاقات «خاصة» ما عاد لها ما يبرّرها.. مع كيان عدواني ساسته فاشيّون لا يريدون السلام، دأبهم تشجيع قوى التطرّف والانقسام، والتآمر على كل معتدل يراهن على التوصل معهم إلى تسويات عادلة معقولة.

وعليه، فمن الأمور التي تدعو إلى الدهشة حقاً استغراب إسرائيل الموقف التركي السلبي منها هذه الأيام، وبالذات بينما تتكشف نياتها وخططها إزاء مصير القدس، مثلا.

عودة إلى لبنان. إن تشكيل الحكومات لا يتحقق على طريقة رماية الأطباق الطائرة. لا يقوم على انتهاز فرصة ما أتاحها تفاهم إقليمي.

فما يحتاجه الشعب اللبناني هو قيام دولة حقيقية تحكمها حكومة عادلة ومستقرة ومنسجمة.. تتعامل مع كل مكوّنات الشعب من منطلق الاحترام المتبادل والتساوي في الحقوق والواجبات. فلا استسلام لإملاءات لمن في يده السلاح، ولا تنازل لمن دأب على الابتزاز، ولا إذعان لمن لا يتحرّك إلا بأوامر عبر الحدود.

والأوطان، إذا غرب عن بال البعض في سياق الشطارة المدمّرة التي عجز اللبنانيون عن الاتعاظ من نتائجها، أكبر وأثمن من الصفقات العابرة. ولا بد لبنائها من مؤسسات تحميها وتصونها.. أكبر بكثير من الزعامات المتزعمة والمزعومة.