سورية ـ تركيا: فراق فخصام فغرام

TT

أنا الذي أدعي أني أملك ذاكرة سياسية قوية، لم أعد أتذكر اسم أول وزير خارجية تركي زار سورية. ولا بالتحديد سنة الزيارة. كل ما أتذكر أني حرصت على حضور مؤتمره الصحافي. كنت بحكم تنقلي بين دمشق وبيروت، موجودا في العاصمة السورية لتغطية الزيارة، لحساب وكالة الأنباء التي أعمل فيها.

كان ذلك إِبَّانَ حكم حافظ الأسد، في أوائل السبعينات. ربما في عام 1971 أو 1972. بدا لي أن الرئيس السوري الجديد آنذاك راغب في تصفية تعقيدات علاقة ثنائية خطرة. فقد كان انفصال سورية عن تركيا العثمانية أليماً. شارك الضباط السوريون في الثورة العربية الكبرى على العثمانيين (1916). انتهت الثورة المدعومة من الغرب، خلال الحرب العالمية الأولى، بانفصال العرب نهائيا عن تركيا، بعد تاريخ مشترك دام أربعة قرون كاملة، بدأ بالفتح العثماني لسورية (1516).

تراوح الحكم العثماني للعرب بين اللين والشدة. كانت له ميزتان إيجابيتان: إنهاء فوضى حكم المماليك للعرب الذي استغرق نحو ستة قرون. الإبقاء على ولاية الشام (سورية. لبنان. الأردن. فلسطين) موحدة إداريا وسياسيا. غير أن قسوة الحكم تجلَّت، بشكل خاص، في سورية. وبشكل عام، في حرمان «الممالك العربية» من التواصل مع النهضة الأوروبية الحديثة التي قامت على التحرر الاجتماعي. الديمقراطية. التقنية الصناعية.

حمَّل العربُ الأتراكَ العثمانيين مسؤولية تخلفهم الحضاري. في المقابل، وللنكاية بالعرب الذين رفضوا التتريك، فقد ألغى الجنرال مصطفى كمال (أتاتورك) القائد العثماني الذي هزمته الثورة العربية، الإمبراطورية العثمانية (1924)، متجاهلا ذاكرة تركيا التاريخية، بما في ذلك الكتابة بالخط العربي! كانت النكاية الكمالية بالعرب شديدة. فقد تحرروا من استعمار متخلف، ليقعوا في استعمار أوروبي متفوق، مزقهم واستغلهم، وَوَطَّنَ اليهود في صميم وطنهم، فيما حافظ الأتراك، بقيادة أتاتورك، وبنضال رائع، على وحدة وطنهم.

تحملت سورية المعاصرة آلام الفراق العثماني/ العربي، بقدر ما تحملت قسوة حكم العثمانيين الأتراك. نعم، قامت بعد الفراق، علاقة ديبلوماسية طبيعية بين البلدين. لكنها كانت علاقة باردة، غير قادرة على حل تعقيدات الانفصال التاريخي، كمتاعب الأتراك والعرب الذين تخلفوا على طرفي الحدود، من دون اعتراف بحقوقهم في أملاكهم العقارية وأراضيهم الزراعية.

استغلت تركيا الكمالية ضعف سورية، وتمزيق الانتداب الفرنسي لها إلى دويلات كرتونية، للمطالبة هي أيضا «بحصتها»! طالبت تركيا بحلب ثاني أكبر المدن السورية. فرضت حدودها على منحدرات جبال طوروس الفاصلة جغرافيا بين البلدين، علما أن الحدود الطبيعية الدولية ترسم، عادةً، على ذرى الجبال. ثم ما لبثت أن تركزت المطالبة على لواء (محافظة أو إقليم) اسكندرون ذي الغالبية السكانية العربية، في أقصى الزاوية الشمالية الغربية من سورية. وهو بالإضافة إلى كونه امتدادا لساحل سورية الضيق، فقد كانت أهميته الاستراتيجية في اعتباره أقرب ميناء سوري إلى أوروبا. حَلَّت الكارثة بسورية، مع نُذُرِ الحرب العالمية الثانية. منحت حكومة اليهودي ليون بلوم الفرنسية اليسارية، سورية استقلالا ناقصا (1936). لكن عادت فسلخت لواء اسكندرون ووهبته إلى تركيا (1939)، إرضاءً لها كي لا تتحالف مع ألمانيا حليفتها في الحرب العالمية الأولى. كانت المنظمة الدولية (عصبة الأمم) شاهد الزور الأول آنذاك. أجرت استفتاء صُورياً ادعت فيه أن غالبية السكان تركية!

راحت الغالبية العربية تهاجر إلى سورية، منذ الأربعينات بأعداد كبيرة، في مقدمتها العرب العلويون والمسيحيون. أود أن أشير هنا إلى أن الكنائس العربية والشرقية أكدت، مع ضياع اسكندرون، نقل مقارِّ بطركياتها التاريخية من أنطاكية (عاصمة سورية الرومانية) إلى قلب العروبة، دمشق، وليس إلى لبنان المسيحي. في الداخل، ثار السوريون. أسقطوا الحكومة الصامتة على سلخ اسكندرون. واضطروا هاشم الأتاسي رئيس الجمهورية إلى الاستقالة (1940). مضت العلاقة الثنائية صعبة. ثم تفجرت في الخمسينات. انضمت تركيا الكمالية إلى حلف بغداد (تركيا. العراق. إيران) ضد الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة. ضغطت تركيا والعراق على سورية لضمها إلى الحلف. حشدت تركيا قوات ضخمة على الحدود. فرض رئيس وزرائها عدنان مندريس (لاحظ اسمه العربي) نفسه ضيفا ثقيلا على دمشق في منتصف الخمسينات. لكن سورية تحصنت بالوحدة العربية مع عبد الناصر الرافض للأحلاف.

كان حلف بغداد شؤما على أصحابه. مزق الانقلاب العسكري عراق نوري السعيد (1958). شنقت العسكرية الكمالية مندريس (1960) بتهمة الفساد. لكن العلاقة مع سورية ظلت متوترة، حتى بعد انفصالها عن مصر. لولا الضغط السوفييتي، لما استطاع السوريون الحصول من تركيا، على مياه كافيه لإقامة سدهم الضخم على الفرات (1966)، لسقاية حلب العطشى، ولري أراضيهم الشرقية الخصبة.

وهكذا، أدهشني المسؤولون الإعلاميون السوريون، وهم يحذرونني من أن أسال ضيفهم وزير الخارجية التركي، عما إذا كانت محادثاته مع دمشق الأسد تناولت قضية لواء اسكندرون. تجاهلت التحذير. سألت الوزير. امْتَقَعَ وجهه الأحمر بالغضب. رفض الإجابة. أنهى المؤتمر بسرعة وانصرف. لم يحدث لي مكروه. كنت أراهن على سماحة صدر نظام الأسد مع الصحافة، في مرحلته الليبرالية القصيرة، قبل صدامه مع عنف الإخوان المسلمين. ثم علمت أن المسؤولين أبلغوا الوزير التركي أن الصحافي السائل يمثل وكالة أنباء أجنبية.

على الرغم من حنكته وتعقله وحذره، لم يستطع الأسد إنهاء الجفاء المزمن مع تركيا الكمالية. إلى أن فوجئ (1996) بعقدها حلفا استراتيجيا خطيرا مع إسرائيل، بترتيب أميركي أوروبي. وضع الحلف سورية في كماشة عسكرية. فقد سمحت تركيا للطيران الإسرائيلي بإجراء تدريباته الجوية في سماء الأناضول، بمحاذاة المجال الجوي السوري.

رد الأسد على الاستفزازات التركية باكتشافه الورقة الكردية. منذ الستينات، كان عشرات ألوف الأكراد الأتراك قد تدفقوا على سورية. قوبلوا بغض نظر رسمي. وجدوا الأمان في حضن القرى الكردية المرشوشة على طول الحدود مع تركيا (810 كيلومترات). ثم أضيف لون «طائفي. نضالي» على ورقة اللعب. فقد آوت سورية أيضا متمردي حزب العمال الكردي، وزعيمه الماركسي العلوي عبد الله أوغالان.

في اللعبة الإقليمية بالقنبلة الكردية، سمح صدام لتركيا بانتهاك السيادة الترابية، بالتوغل أربعين كيلومترا داخل العراق، كلما أرادات ملاحقة متمردي أوغالان الذين وجدوا الملاذ لدى أشقائهم في جبال كردستان العراق. كان أوغالان قد تسبب في مقتل نحو 45 ألف كردي وتركي منذ منتصف الثمانينات. وهكذا أيضا، استغلت تركيا عداء صدام للأسد، لتوجيه تحذير إنذاري لسورية: الحرب أو طرد أوغالان وتحييد المتمردين (1998).

لم يعش الأسد الأب ليرى ابنه ووريثه يسحب الورقة التركية من الجيب الإسرائيلي. كان المرض قد أنهكه. لكن مَهَّدَ للابن الفرصة المناسبة: حَيَّدَ نشاط المتمردين الأكراد، طرد أوغالان الذي نجحت المخابرات التركية في اعتقاله، في بلد أفريقي، بالتعاون مع المخابرات الإسرائيلية والأميركية. توفى حافظ الأسد في عام 2000. ما زال لواء اسكندرون مرسوما بعناية على الخرائط السورية. لكن كيف تحول الفراق المؤلم والخصومة المتبادلة، إلى كلام. فعناق. فغرام؟! كيف سمحت تركيا أتاتورك لتركيا إردوغان (المتزوج من فتاة تركية سورية الأصل) بالاستدارة من أوروبا المسيحية، إلى البيئة الإقليمية العربية والإسلامية؟ كيف سحبت سورية الابن الورقة التركية من الجيب الإسرائيلي؟ كيف اختفى اللواء السليب، بمهارة ديبلوماسية سورية، من ملف العلاقة الثنائية؟ ذلك هو موضوع الحديث عن الغرام اللاهب في الثلاثاء المقبل.

للحديث بقية