دهشة مولير بجائزة نوبل للآداب

TT

يبدو أن الأخبار السارة تتوالى علينا يوما بعد يوم! لماذا كل هذه الهدايا؟ فبعد انتخاب امرأة بلغارية ضاحكة وكفؤة لمنصب المدير العام الجديد لليونيسكو إذا بالأكاديمية الموقرة في السويد تمنح جائزة نوبل للآداب لامرأة جميلة في شكلها وإنسانيتها ومعاناتها. هل دخلنا عصر السيدات يا ترى؟ هل سنستيقظ يوما ما ونجد أن العالم كله أصبح محكوما من قبل السيدات؟ لم لا؟ أنا شخصيا سوف أكون أول السعداء بذلك. وسوف أنفذ أوامرهن بسرعة البرق وبمتعة ما بعدها متعة، في حين أني أجد صعوبة بالغة في الخضوع لأوامر الرؤساء إذا كانوا رجالا.

سوف أكون كاذبا إذا قلت لكم بأني كنت أعرف عنها شيئا ما أو أني سمعت باسمها من قبل قط. ولكن هذا يدل على نقص ثقافتي لا على قلة أهميتها. فبعد أن استعلمت عنها عرفت أن السيدة هيرتا مولير كاتبة محترمة على أكثر من صعيد. أول شيء ينبغي أن نحترمه فيها هو أنها لم تسع إطلاقا لنيل جائزة نوبل. بقيت في مكانها، حيث هي مخلصة للأدب والمعاناة الإنسانية الجريحة. ثم جاءتها الجائزة على طبق من ذهب. وهكذا تكون الجوائز أو لا تكون! من هنا دهشتها الكبرى وفرحتها الطفولية لأنها نالت أعظم جائزة أدبية في العالم. وينبغي أن نفرح معها لأن اختيار الأكاديمية جاء في مكانه هذه المرة والمرة السابقة أيضا مع النقي الصافي لوكليزيو.

ويبدو أنها تنتمي إلى ذلك النوع من الكتاب الحريصين على القيم الأخلاقية والإنسانية العليا أكثر من أي شيء آخر في الوجود. بمعنى آخر فان «النجاح» في الحياة هو آخر همومهم لأنهم بكل بساطة لا يعرفون كيف ينجحون ولا يريدون أن يعرفوا. أو قل إنهم يتبعون وصية سارتر متحدثا عن بودلير: الفشل في الحياة هو الخطوة الأولى نحو النجاح في الأدب. ينبغي أن تفشل لكي تنجح! هؤلاء تنطبق عليهم كلمة إيراسموس زعيم النهضة الأوروبية: عقل هذا العالم أو حساباته الصغيرة، في منظور الأبدية، جنون!

بعد جولة من الاطلاعات هنا وهناك عرفنا أن السيدة هيرتا مولير إنسانة مجروحة من الداخل. وهذا أكبر دليل على أنها كاتبة حقيقية. فلا كتابة بدون جرح ينزف ويدمى: جرح طري غائر في الأعماق والأقاصي، جرح له بداية وليس له نهاية.. لماذا هي مجروحة؟ لأن العالم البوليسي الذي عاشت فيه كان مليئا بالاعتباط والكبت والقهر. وكان مليئا بالناس البسطاء، الناس الفقراء المهانين والمذلولين، كما يقول ديستيوفسكي. ويبدو أن هؤلاء هم أهلها، أحبَّتُها، عشيرتُها الأقربون. وقد عرفت كل أحلامهم المحبطة عن كثب. نضرب على ذلك مثلا بطلة رواية: الاستدعاء. وهي عاملة بسيطة في معمل لصناعة الأقمشة. وكانت تدس في جيب كل قميص بطاقة مكتوبا عليها كلمة واحدة: أنتظرك! لعل وعسى أن يكتشفها أحد الشباب الإيطاليين فيقع في حبها ويطلبها للزواج ويخرجها من رومانيا، من الجحيم الشيوعي. وهذه هي أحلام معظم شباب الكتلة الاشتراكية في تلك الأيام. وقد أصبحت للأسف أحلام شبابنا نحن الآن. انظر أولئك الذين يغرقون في قواربهم قبل الوصول إلى شواطئ الجنة الموعودة.. فالعالم الذي عاشت فيه معظم حياتها قبل أن تنتقل إلى ألمانيا الغربية عام 1987، أي عالم شاوشيسكو الاستبدادي، كان مليئا بالملاحقات البوليسية ويحصي على الناس أنفاسهم. وقد عانت منه الويلات. وبالتالي فهي كاتبة دفعت الثمن من أجل الحرية. وهذا أكبر وسام للكتاب الحقيقيين على مدار العصور. إنها من سلالة جان جاك روسو وفولتير وغوته وفيكتور هيغو وسارتر وسولجنستين وبقية الكبار. ويكفيها ذلك فخرا. وهو وحده يشفع لها في نيل الجائزة مرفوعة الرأس . لقد أرادوها أن تشتغل في أواخر السبعينات مخبرة لدى أجهزة الأمن فرفضت ودفعت الثمن. وكل ذلك يتراءى على وجهها الشفاف وملامحها المؤلمة والإنسانية في الصورة. وقد عبرت عن هذه القصص السوداء التي تنطبق على كل الديكتاتوريات البائدة في العالم من خلال رواية الاستدعاء المذكورة آنفا، أي الاستدعاء إلى مراكز الأمن وأخبيته السرية تحت الأرض. نعم إن كاتبة كهذه تشرّف جائزة نوبل أكثر مما تشرّفها الجائزة لأنها عرفت معنى القمع وضحت من أجل الحرية. ولم تذهب تضحياتها سدى. فبعد سنتين فقط من لجوئها إلى ألمانيا الغربية انهار جدار برلين والعالم الشيوعي بأسره. وكانت النهاية البشعة والمأساوية لجلادها الكبير: شاوشيسكو.