خواطر من «عاصمة السلاطين»

TT

في شهر يناير من عام 1968م قام السيد جودت سوناي، رئيس جمهورية تركيا، بزيارة رسمية للمملكة العربية السعودية رداً للزيارة التي قام بها الملك فيصل بن عبد العزيز «يرحمه الله» لتركيا قبل ذلك بعامين.

وبذلك يكون جودت سوناي أول رئيس لدولة تركيا يزور المملكة العربية السعودية منذ عهد الخلافة العثمانية حتى عهد مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الدولة التركية الحديثة.

حرص الكبار من قادة العالم الإسلامي على أن يكون أداء مناسك العمرة، والصلاة في المسجد النبوي الكريم، في طليعة وقائع الزيارة التي يقومون بها للمملكة، فهي سنة لا يجوز الالتفاف عليها. وهي أيضا متعة روحية، وتعزيز لمقام الشخصية الزائرة لدى مواطنيها.

على أن زيارة الرئيس التركي قد جاءت خروجاً على تلك القاعدة، وصمتاً عليها، فلم ترد في برنامج زيارته للمملكة إشارة عن عزمه أداء مناسك العمرة، وزيارة المسجد النبوي. كما يفعل رؤساء الدول الإسلامية الأخرى.

كان هذا الأمر، على غرابته، مفهوماً لدى القيادة السعودية وهي تسعى لأن تجعل من هذه الزيارة مدخلا لعهد جديد في العلاقات بين البلدين بعد عهد فاتر كان أشبه بالقطيعة.

في أعوام العشرينات من القرن الماضي، بادر مصطفى كمال أتاتورك، سيد تركيا الجديد، إلى إلغاء الخلافة العثمانية واستصدار تشريعات جديدة تنظم الحكم والحياة، تجرد الدولة والمؤسسات الدينية من كل مظاهر الإسلام، وتجعل الفكر العلماني، المفرط في علمانيته، النهج الجديد لدولةٍ تسعون في المائة من سكانها مسلمون.

ألغى المدارس الدينية، واختفت مناهج التعليم الديني في المدارس العامة، ترجم القرآن للغة التركية. ساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق بما فيها حق الميراث. منع تعدد الزوجات. فرض على الأتراك لبس القبعة الأوروبية. ألغى المحاكم الشرعية، واستبدلها بمحاكم مدنية. استعاض عن الشريعة الإسلامية بقوانين أوروبية، فأخذ القانون المدني عن سويسرا، والقانون التجاري عن إيطاليا، والقانون الجنائي عن فرنسا. واستبدل، ضماناً لتنفيذ كل هذه التحولات، الحرف العربي في اللغة التركية بحروف لاتينية.

ليس هذا فحسب!

بل أجبر المؤذنين على رفع الأذان باللغة التركية! إلى أن جاء عدنان مندريس رئيساً للوزراء عام 1950م فأعاد رفع الأذان بلغة القرآن. لم يغفر له العسكريون هذا التطاول على إرثٍ علماني مستقر فانقلبوا عليه واقتادوه إلى جزيرة نائية، حيث حاكموه وأعدموه مع اثنين من وزرائه في 27 مايو 1960م.

كان على جميع أركان الحكم، والعسكريون منهم على نحو خاص، أن يعوا هذه الحقيقة في حياة تركيا الحديثة، وأن يعملوا على تعزيز الفكر العلماني، وتمكينه من احتواء الوطن والمواطنين تحت عباءته. فهو نهج لا رجعة فيه، وإرث عن قائد عظيم، ومؤسس لدولة حديثة تحررت من «تركة آل عثمان».

كان الرئيس جودت سوناي من ورثة هذا الحكم، والمؤتمنين عليه. فهو مدعو، إذن، لأن ينأى بنفسه عن كل ما قد يشكل «خروجاً» على علمانية الدين والحكم والحياة. فلا صلاة في العلن، ولا صيام، ولا تردد على المساجد، ولا ترتيل لكتاب الله الكريم.

كان إعراضه، إذن عن أداء مناسك العمرة، وهو على بعد ساعة من المسجد الحرام التزاماً بالفكر العلماني، ووفاءً للإرث الذي أؤتمن عليه.

وكانت المفاجأة:

في اليوم الأخير من زيارته أسرّ الرئيس جودت سوناي لمضيفه الملك فيصل بن عبد العزيز برغبته في أداء مناسك العمرة في منأى عن أي تغطية إعلامية. فلا مصورون، ولا تلفزيون، ولا مراسلون صحفيون. واقتصر الوفد السعودي المرافق على الضروري منه. وعاد الرئيس التركي من مكة إلى جدة لتقلع به الطائرة إلى أنقرة دون أن يعلم أحد بأدائه مناسك العمرة.

كان لا بد لحدث كهذا من أن يستوقف أوساط الديوان الملكي السعودي، لتتحدّث فيه، حديث الدهشة والتساؤل، عن القوة الخفية التي حررت الرئيس التركي الزائر من خوفه من العلمانيين ومخاطر استعدائهم عليه.

لو كان الرئيس جودت سوناي وريثاً للفكر العلماني وراثة ملكت عليه قلبه وعقله لما اكترث بقربه من مكة المكرمة، ولما أقدم على أمر فيه تجاوز لخطوط حمراء واستعداء مؤسسة عسكرية هي في مزايدات لا تنقطع دفاعاً عن الدولة العلمانية. ولا بد، إذن، أنه استجاب لنداء أقوى من الخوف، أقوى من خشية ثورة العلمانيين عليه. فلم يتحمّل أن يكون على مشارف الحرم المكي الشريف فلا يصلي، ولا يعتمر فيه.

كان جودت سوناي، في اعتماره وطوافه بالبيت الحرام، المسلمَ الذي استيقظ في أعماقه إيمان راسخ رسوخ الجبال فلم يبال بأن تعلم المؤسسة العسكرية بذلك، وهي في موقف الراصد المتربص لكل من يتطاول على علمانية الدولة إرث أتاتورك العظيم.

لقد أدرك الساسة في تركيا منذ عهد الرئيس تورغوت أوزال أن إيلاء الشأن العربي أهميته هو من أولويات سياستهم الخارجية، وفي أنقرة اليوم حكومة حملتها صناديق الاقتراع إلى مواقع الثقة في النفس والعمل باستقلال وشجاعة لم يعهدها العرب من قبل، وهي في حاجة للمزيد من ثقة الدول العربية فيها، وتعزيز التعاون معها في مختلف المجالات.

صحيح أن في تاريخ العلاقات العربية التركية جرحاً لا يزال ينبض بالوجع القديم، عندما باعتنا بريطانيا، خلال الحرب العالمية الأولى، وهماً كبيراً وخدعتنا بدولة عربية كبرى كي نحارب الأتراك ونطارد ونقتل جنودهم في المدينة وفي معان، والعقبة، وفلسطين والشام تحت لواءٍ من الخديعة يحمله ضابط بريطاني، استعماري العقيدة، ماكر شرير اسمه لورانس العرب.

وصحيح أيضاً أن تركيا كانت في طليعة المعترفين بإسرائيل، والمتعاونين معها، الأمر الذي أثار حفيظة العرب وزاد في جفوة القلوب، إلا أن الارتهان لأحداث الماضي وما تفيض به مرارة النفوس لم يعد أمراً مقبولا أو ممكناً في العلاقات بين الشعوب. وتظل تركيا البلد الذي تربطه بالعالم العربي أقدار لا يمكن الفكاك منها دون أن تلحق بالعلاقات أضرار يكون العالم العربي هو الخاسر فيها. ولعل واحدة من أهم مكونات هذه العلاقة سيطرة تركيا على منابع نهري دجلة والفرات في أعالي الأناضول، وحاجة شعبي سوريا والعراق لوفاق دائم مع جار الشمال.

ويحسب لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، حساب التحية والتقدير، حرصه على أن تكون المملكة العربية السعودية في طليعة الدول العربية الساعية بثقة وإخلاص لبناء أفضل العلاقات مع تركيا، ممثلة بحكومة يرأسها رجل حكيم وشجاع.

وربما كان التعاون العربي مع تركيا، الآن، أكثر قبولا لدى المواطن التركي وهو يرى أن طموح بلاده لعضوية الاتحاد الأوروبي يكاد يكون الآن وهماً مندثراً.

صحيح أن تعاون تركيا مع العالم العربي، وما هو عليه الآن من التخلفِ وسوء الحال، لن يعوضها عن مكاسبها من انضمامها لعضوية الاتحاد الأوروبي، إلا أن الأمرين مختلفان. فتركيا، كدولة شرقية أوسطية كبرى، مدعوة بقدرها لأن تكون قوة مؤثرة في شئون هذه المنطقة.

كان العلمانيون الأتراك يعتقدون أن ما قام به أتاتورك من «علمنة» تركيا فيه اقتراب شديد من أوروبا، وتأهيل لها لعضوية الاتحاد الأوروبي، وهي الدولة الإسلامية التي انفردت بتبني تشريعات أوروبية حررت تركيا من «إرث سلطاني عثماني متخلف».

وهي أيضا، الدولة العضو المهم في حلف شمال الأطلسي منذ أيام الحرب الباردة، وفي ذلك خروج عن حيادها التقليدي وموالاة سياسية للغرب.

كنت، على مدى عشرين عاماً، أتابع، وأنا سفير لبلادي في فرنسا مواقف أوساط السياسة والإعلام من طموح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي. وكان هناك ما يشبه الإجماع على أنه أمر غير وارد. وتتباين اللهجة بين سياسي وآخر في جزمها أو في ليونتها حديثاً في هذا الشأن. على أن ذلك لم يمنع الاتحاد الأوروبي من إقامة علاقة اقتصادية مُتميّزة مع أنقرة، اكتفاءً بذلك، ويظل البحث في موضوع العضوية الكاملة للاتحاد الأوروبي أمراً مفتوحاً للحوار.

وتوالت الأحداث، منذ 11 سبتمبر 2001م، لتشحن الرأي العام الغربي بكل مشاعر الريبة والحذر، بل والكُره أيضا، لكل ما هو مسلم وعربي.

ولم تعد المعارضة لهذا الانضمام مكسوة بغلافٍ من الدبلوماسية الحذرة بل وجد المناهضون لأحلام «أنقرة»، في هذه المشاعر المُعبأة بالعداء للإسلام، مُناصرة لهم في التأكيد على مواقفهم والمُجاهرة بها، بل واستقطاب المزيد من خصوم الانضمام.

كان الرئيس جاك شيراك، وهو في الحكم، قبل أحداث سبتمبر 2001م، يدعو لتأييد انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، فهو يرى في ذلك الانضمام كسباً لدولة قريبة في فكرها من العالم الغربي قادرة لأن تنهض بدور الموفق والوسيط بين أوروبا والعالم الإسلامي.

والآن، يجاهر رئيسا أكبر دولتين أوروبيتين هما السيد نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بمعارضتهما لهذا الانضمام. وحجتهما في ذلك أنهما لا يريدان لأوروبا حدوداً مشتركة مع سوريا والعراق وإيران بانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. وهو دفع بارع يثير المخاوف والقبول لدى رأي عام هو مسكون بهواجس الخوف من الإسلام!

تداعت هذه الخواطر وأنا أتجوّل بين المعالم التاريخية لمدينة اسطنبول، الحاضنة لأربعة آلاف مسجد، والتي كانت يوماً حاضرة لأمجاد آل عثمان، وموئلا عزيزاً للسلاطين.

ولشد ما أُخذت بمساجدها، وقد علت قبابها مآذن طويلة متناسقة جميلة لا يعيب ارتفاعها انحناء كأنها سيوف آل عثمان مشرعة فوق جبال البلقان في عهود الفتح العثماني.

ومن تلك المآذن ينطلق صوت يرفع الأذان رخيماً مؤثراً يملأ القلوب، كل القلوب، بشعور من السكينة والتأمل والخشوع.

*وزير الإعلام ووزير الصحة السعودي الأسبق والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية