شتان!

TT

كان حديثا جادا ومهما الذي جمعني مع مجموعة من الأصدقاء منذ أيام ليست ببعيدة دار فيه حوار عن التقنية وآثارها في المجتمعات العربية ومدى التأثير الذي لها في الناس. التفت أحد الحضور، وقال بعد تنهيدة طويلة: لقد أنهيت علاقتي بالشركة التي كنت أعمل بها بأسلوب غير عادي، ففي بادئ الأمر تلقيت رسالة بالفاكس تخبرني رسميا، وبعدها جاءتني رسالة على عنوان بريدي الإلكتروني، وبعدها تلقيت رسالة هاتفية قصيرة على هاتفي الجوال بنفس الإفادة والمعنى، ولم يمض وقت كبير قبل أن أتلقى رسالة من أحد الموظفين في قسم الشؤون الإدارية بالشركة والمشترك على موقع التواصل الاجتماعي المعروف «الفيس بووك» يفيدني بنفس الأمر، وبعدها بساعة تلقيت رسالة أخرى من موقع «تويتر» بنفس المعنى، وختمت آخر الليل بمكالمة هاتفية على جوالي، وأخرى من فرع الشركة في أوروبا على الهاتف بالإنترنت المعروف «سكايب». وقال، بعد تنهيدة أخرى وبعد سرده للقصة: يعني قصة فصلي من العمل وصلتني بسبع طرق مختلفة من التكنولوجيا، والحمد لله أنه لم يعد أحد يستخدم التلكس والتلغراف اليوم وإلا كانت صارت تسعا! التقنية متعددة وتوغلت في حياتنا بشكل مدهش.

الإنترنت في كل مكان والهواتف المحمولة أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياة الناس، وكل السيارات الجديدة باتت خيارات التوجيه الإلكتروني وتحديد المواقع فيها أساسية، ومعظم الأدوات والأجهزة المكتبية والمنزلية أصبحت عناصر الخدمة وتحسين وتسهيل الأداء عنصرا لا يمكن إغفاله. الحياة «نظريا» سهلت، ولكن الكم المعرفي هذا كله لم ينعكس على تحسين نوعية الحياة ولا رفع مستوى الكفاءة الذهنية لعامة الناس، فالأمية بصورة عامة لا تزال تحتل أرقاما مفزعة على مستوى العالم العربي، والموضوع مذهل أكثر إذا ما تم الحديث عن الأمية الإلكترونية الذي يصور وضعا لا يسر، والدليل على ذلك هو أن الانتشار التقني والإلكتروني لم يتحول إلى استفادة كبيرة تنعكس على قطاعات التعليم والتجارة الإلكترونية والفعالية الحكومية وتحسين سبل الإدارة وتقليل البيروقراطية وتطوير الخدمات كما يحدث في الدول التي استفادت من ذلك، مثل فنلندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وغيرها.

كان كبير المدينة لديه راديو واحد بإطار خشبي سميك يملك هو وحده الحق الحصري للمعلومة التي كانت تأتيه عبر الأثير من «البي بي سي» أو «صوت أمريكا» على الأغلب، وكان يتباهى بها مع أهله وأصحابه، واليوم مع وصول المعلومة لشرائح هائلة من الناس تحولت المجتمعات العربية من مجتمعات متلقية للخبر إلى ناقلة له عبر تقديم الرسائل للغير أو إضافة بعض «البهارات» والتفاصيل عليها. وفرق كبير بين مجتمع «الأخبار» ومجتمع «المعرفة»، ومشهد واحد في الطائرات والمطارات والقطارات العربية كفيل بتأكيد ذلك، حين رؤية قراء الصحف (وهم كثر) يمثلون مجتمع الأخبار، وقراء الكتب (وهم قلة) يمثلون مجتمع المعرفة. التقنية أداة ووسيلة نقل من حال إلى حال لا تفيد أي مجتمع إذا لم يكن مؤهلا لها ويحترم الأداة وله هدف يريد الوصول إليه بها.

[email protected]