من يعلم عن شئون دنيانا؟!

TT

كان الفيلسوف اليوناني أفلاطون هو الذي طرح في كتابه «القوانين» السؤال عن مصدر «القانون» ـ أو السياسة وتنظيم الشئون العامة ـ وعما إذا كان البشرَ أم الآلهة؟ وكان معنى السؤال هو عما إذا كان «الأمر» أو الموضوع العام تحدده مصالح الناس وحياتهم اليومية، ومن ثم فإنه قابل للمراجعة والتغيير، أم أنه قد تم تحديده من قبل في كتب مقدسة، ومن ثم يبقى على حاله بلا تغيير أو تبديل. وإذا ترجمنا كل ذلك إلى لغتنا العربية بدلا من اليونانية، فإن السؤال يصبح عما إذا كان البشر أعلم بشئون دنياهم يسيرونها إلى المدى الذي تصل إليه الحكمة الإنسانية المستمدة من المعرفة، أم أن عليهم الانصياع لقواعد محددة سلفا يحددها ويعرفها لهم طائفة من رجال الدين الذين يفتون في «الأمر»، حسب ما قدر لهم من فهم لا يقولون به اجتهادا وإنما باعتباره فصل الخطاب المستند إلى قواعد سماوية.

هذه الإطلالة الفلسفية كانت ضرورية إزاء ما يجري في القاهرة والرياض من جدل فكري وثقافي وديني حول أمور من الشئون العامة. وفي الوقت الذي قامت فيه وكالة «ناسا» الفضائية الأمريكية، بإجراء عملية تفجير «مزدوجة» على سطح القمر بحثا عن الماء على السطح الصخري للقمر، كانت الساحة الثقافية المصرية منشغلة بحالة من الجدل حول العديد من القضايا الدينية والاجتماعية. وكانت البداية عندما ثارت أزمة كبيرة عام 2006 بعد تصريح جاء على لسان وزير الثقافة فاروق حسني يعرب فيه عن رأيه الشخصي في مسألة الحجاب. وعلى خلفية ذلك، قامت الدنيا ولم تقعد، وانطلقت موجة من الجدل والاحتجاج في مصر استمرت فترة طويلة. وبعد أن ثارت أزمة حول فتوى «إرضاع الكبير» التي طرحها الدكتور عزت عطية رئيس قسم الحديث في جامعة الأزهر عام 2007، جاء الجدل الواسع بعد حصول المفكر المصري الدكتور سيد القمني على جائزة الدولة التقديرية للعلوم الاجتماعية لعام 2009، وبمجرد الإعلان عن الجائزة، اشتعلت العديد من المعارك الثقافية بين مؤيدي ومعارضي منحها للرجل. كما جدد الحكمُ الصادر بإلغاء ترخيص مجلة «إبداع» في أبريل الماضي، على خلفية نشر قصيدة الشاعر حلمي سالم «شرفة ليلى مراد» التي اتهمت بالإساءة للذات الإلهية، أزمةَ المثقفين المصريين مع ما يسمى «فقه المصادرات» السائد في الساحة الأدبية. وأثارت تصريحات للكاتب الإسلامي جمال البنا، حول شرعية الأخذ بشهادة أي من «الرجل غير المسلم» أو «المرأة المسلمة» على عقود زواج المسلمين، جدلا بين علماء الدين الذين انقسموا ما بين رافض ومؤيد ضمني. كما أحدثت فتوى للدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية بجواز استخدام العطور التي يدخل في تركيبها نسبة كحول جدلا فقهيا واسعا بين علماء الأزهر استمر فترة طويلة.

كل ذلك كان مجرد إرهاصات أو مقدمات للقضية الأخطر المتعلقة بالنقاب، والتي أحدثت سجالا ثقافيا وفكريا كبيرا حينما رفض شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي ارتداء إحدى الطالبات النقاب في أحد فصول المعاهد الأزهرية التي يدرس فيها الفتيات فقط، لأن ارتداءه في هذه الحالة يعد، حسب قوله، لونا من التشدد الذي ترفضه الشريعة الإسلامية التي تدعو دائما إلى الوسطية والاعتدال. وأصدر الأزهر الشريف قرارا يقضي بحظر ارتداء النقاب داخل جامعة الأزهر، والمدن الجامعية الخاصة بطالباتها، وفصول المعاهد الأزهرية للفتيات، فضلا عن قاعات الامتحانات، مستندا إلى حكم المحكمة الدستورية العليا، الذي ينص على أن قرار منع دخول المدارس بالنقاب لا ينال من حرية العقيدة، ولا يقوض أسسها أو يعطل شعائر ممارستها، ولا يناهض جوهر الدين في الأصول الكلية التي يقوم عليها، بل ويعتبر اجتهادا مقبولا شرعا لا يتوخى غير تنظيم رداء الفتاة ـ في دائرة المعاهد التعليمية عبر المراحل الدراسية التي حددها ـ بما لا ينتقص من حيائها أو يمس عفافها أو يشي بعوراتها. وهنا فإن هذا القرار يدخل في دائرة تنظيم المباح، ولا يعد افتئاتا على حرية العقيدة. وقد ترك قرار الأزهر خيار ارتداء النقاب خارج الفصول الدراسية أمرا شخصيا.

وعلى خلفية ذلك، شهدت الساحة الداخلية المصرية حالة من الجدل الواسع، وانقسمت الآراء ما بين مؤيد ومعارض للقرار. فقد رفضت الجماعة الإسلامية القرار، وهاجمت شيخ الأزهر ووزير التعليم العالي. وأسست مجموعة من الناشطين على موقع «فيس بوك» رابطة جديدة تحت مسمى «معا ضد شيخ الأزهر» طالبت بعزل طنطاوي من منصبه، وشددت على ضرورة أن يتقدم باعتذار رسمي، كما دعت حركة الإخوان المسلمين شيخ الأزهر إلى الاستقالة. وفي مواجهة هذا الرفض، وجد القرار قبولا لدى العديد من رجال الدين والمثقفين، الذين اعتبروا أن وجه المرأة ليس بعورة وأن استعمال النقاب في محله يضمن عدم مواجهة المنتقبات أي مشكلات أو عقبات، أما إصرار بعضهن على ارتدائه داخل الفصول، فهو يمثل توجها متشددا ومحاولة لفرض الرأي ليست في مصلحة المجتمع. ووفق هذه الرؤية، فالأمر لا يتعلق بالحرية الشخصية المكفولة لكل المواطنين، وإنما بتنظيم العملية التعليمية، فمن غير المنطقي السماح بدخول أشخاص غير معلومين، حتى لو كانوا يحملون البطاقات الجامعية إلى المؤسسات والمعاهد التعليمية، لا سيما أن حقوق الإنسان تساند الحرية الشخصية، ولكن بشكل إيجابي لا يؤدي إلى الإخلال بالنظام العام للمجتمع. وفضلا عن ذلك، فإن ضرورات الحياة تفرض على المرأة عدم إخفاء وجهها للتعرف على شخصيتها في ظل الكثير من الجرائم التي ترتكب باسم النقاب. ويمكن الرد ـ أو هكذا قيل ـ على حجة أن كشف الوجه يسبب الفتنة، بأن تغطية الوجه يسبب الحرج لمن يتعامل مع المرأة، لأنه لا يدري مع من يتحدث ويتعامل، ولا من يعطيها ثقته في المواقف التي تتطلب ذلك، خصوصا في مجالات الطب والصيدلة وفي فصول الدراسة.

سؤال أفلاطون هنا يفرض نفسه على كل ما سبق، فالنقاش في حقيقته يدور حول عما إذا كان البشر أعلم بشئون دنياهم، بحيث يتكيفون مع الظروف العملية للحياة ويبحثون عن أساليب للتعامل معها، أو أن مهمة البشر هي البحث عن «الفتوى» الملائمة للتعامل مع أمور وأحوال بطبعها متغيرة. ولا يبدو أن الأمر قاصر على القاهرة وحدها، بل إنه ممتد حتى الرياض وربما كل العواصم العربية والإسلامية، حيث تهيمن الحيرة ويبعد اليقين وبينهما يوجد التوتر والأزمات. وخلال الفترة الماضية جرت خطوات شجاعة في المملكة العربية السعودية لإعطاء المرأة حقوقا في العمل والتصويت والانتخاب، كما بدأت السعودية في تجاوز مسألة الفصل بين الجنسين في المراحل التعليمية. وتعتبر جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية التي تم افتتاحها في اليوم الوطني السعودي في 23 سبتمبر 2009، أول جامعة سعودية تسمح بالاختلاط في فصول الدراسة على الرغم من أنها مقصورة على الدراسات العليا فقط.

ويأتي تأسيس الجامعة ضمن جهود المملكة للبحث عن دراسات في مصادر الطاقة البديلة وتقليص اعتماد المملكة على النفط وتشجيع البحث العلمي والدخول في مصاف الدول المشاركة في الثورة التكنولوجية المعاصرة. لكن النقاش بدلا من أن يتركز حول أهمية الجامعة ودورها في تغيير المجتمع، فإنه تمحور حول قضية الاختلاط، نتيجة وجود بعض الأصوات المعارضة للفكرة. وبينما رأى البعض من علماء الدين أن في القضية «فسادا عظيما» و«شرا وإثما»، ونشرا للنظريات الغربية حول النشوء والارتقاء، كان هناك البعض الآخر الذين رأوا في كل ذلك تفكيرا متشددا هو الذي كان سيجعل البلاد تعيش في الصحراء وتركب الجمال.

القصة هكذا تعود بنا دائما إلى أصل الموضوع الذي يقض مضاجعنا كل يوم بين أن نكون أعلم بشئون دنيانا كما هي، أو ننتظر الفتوى التي تصر على أن تبقى الأحوال على ما هي عليه حتى يوم الدين. لقد حلت دول العالم وأممه المعضلةَ منذ وقت طويل أما لدينا فهي تتجدد كل لحظة!.