الحرية.. محاولة للفهم والتعريف

TT

كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ مقولة بليغة منسوبة لسيدنا عمر بن الخطاب، يطلب فيها منا أن نكف عن استعباد الناس لأنهم ولدوا أحرارا. ويقول جان جاك روسو.. ولد الإنسان حرا وها هو مقيد بالأغلال في كل مكان. المقولتان تركزان على نقطة البداية وهي لحظة ميلاد الإنسان كحجة على حتمية الحرية، لأنها هي بالتحديد ــ وليست العبودية ــ ما كنا عليه عندما جئنا إلى هذه الدنيا.

أستمع جيدا لكل ما يقال من عظماء الدنيا غير أن لدي قدرا من الحرية يدفعني لمناقشة ما يقال بحثا عن الحقيقة فيه، أقول ذلك حتى لا تذهب بك الظنون فتتهمني بأنني أخطّئ عمر بن الخطاب أو أنال من مقولات فيلسوف كبير مثل روسو، أنا فقط أناقش ما قالاه عن الحرية من أجل المزيد من التعرف على عناصرها. هناك مئات الآلاف ماتوا دفاعا عن أديانهم ومذاهبهم وممتلكاتهم وأفكارهم أيضا على طول التاريخ وعرضه، وأيضا مات مئات الملايين في المائة عام الماضية فقط من أجل الحرية. وفي منطقتنا جاء الغرب ليموت شبابه من أجل فرض الحرية في العراق على سبيل المثال، كما مات مئات الألوف من أهل العراق دفاعا عن الحرية. وإلى الأبد سيقتل الناس بعضهم البعض دفاعا عن الحرية أو من أجل الحصول عليها.. فما هي هذه الحرية التي يتكلمون عنها ويموتون من أجلها؟

سيدة تخفي وجهها خلف قماش أسود كثيف لا تكشف إلا عن عينيها التي ربما تكون أحيانا جميلة وموحية في أحيان أخرى، وتقول لك إن الله سبحانه وتعالى أمرها بذلك، وعندما تتدخل المرجعيات الدينية وأقصد بها هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في التفقه في علوم الدين، وتقول لها: لا يا سيدتي.. لم يأمرك الله سبحانه وتعالى بذلك.. وهذه أقوال أئمة الدين تؤكد ما نقوله لك.

وعلى الفور تجيب: نعم.. ولكنني حرة.. هذا حق من حقوقي الإنسانية.. من حق الإنسان أن يرتدي الزي الذي يحلو له.. إنها الحرية.. هل أنتم ضد الحرية؟

السؤال مخيف لعدد كبير من البشر، وخاصة هؤلاء الذين يتحملون مسئولية التفكير بحرية في المجتمع، فيجيبون على الفور: نعم.. نعم.. أنت حرة في ذلك تماما.. هذا حق من حقوق الإنسان. الواقع أنه لم يحدث من قبل أن كان إخفاء الوجه حقا من حقوق الإنسان ولا يجب أن يكون.

إن الإجابة الوحيدة التي أشعر بصدقها قالتها سيدة منقبة حاصلة على الدكتوراه في برنامج تليفزيوني: أنا أشعر بارتياح عندما أرتدي النقاب.

نعم.. هي بالفعل تشعر بالارتياح لذلك، إنه نفس الارتياح الذي يشعر به كل من يريد أن يستمتع بمضايقتك، مضايقة الجماعة.. هو نوع من النكد الذي يحلو لبعض الناس أن يسببه لمن حوله، هي تشعر أنها متميزة عن بقية الناس وتريد إرغامهم على الاعتراف بوجودها بأسهل الطرق. غير أن هذه السيدة أشعرتني بالألم عندما تحدثت عن ابنتها المنقبة أيضا، هي خريجة جامعة وعملها مطلوب، ولكن لا أحد يقبلها في القطاع الخاص، تألمت عندما عرفت أن الابنة الشابة قالت لها: لماذا نقبتني يا أمي؟

هذه هي المشكلة، أن تكون الابنة الشابة أو لا تكون. الأم تشعر بالارتياح لارتداء النقاب أما الابنة فتشعر بالألم لأن النقاب حرمها من العمل.. من التحقق.. من الحرية.

لا وجود للحرية بغير العمل والانسجام مع الجماعة وعدم ممارسة العقد النفسية عليها، الطفل إذن لا يولد حرا لأنه يولد ضعيفا في حاجة لعناية الأم، هو ليس مسئولا عن شيء، ليس ناضجا بما فيه الكفاية ليكون حرا، هكذا نستطيع رؤية الحرية من زوايا جديدة، الأحرار إذن هم فقط القادرون على العمل بكفاءة في كل مجال من مجالات الحياة. المجتمعات الحرة هي المجتمعات المنتجة، الإنتاج هو الحرية. لم تعد هناك على الأرض تلك النظم المستبدة التي لم نعد نراها إلا في الأفلام فقط، لم تعد هناك شعوب مقيدة في الأغلال، هناك فقط شعوب عاجزة عن العمل محرومة من الكفاءة اللازمة للإنتاج في سوق تحكمه المنافسات القوية والشرسة أحيانا. وهو الحرمان الناتج عن الكذب والنفاق وعدم الإحساس بالزهو الإنساني.

تمجيد العمل الإنساني هو الطريق الصاعد إلى الحرية، وكل شخص يطل عليك من على شاشة التليفزيون ولا تعرف له عملا محددا مكتفيا بالقول إنه قيادي في الجهة الفلانية، هو طاغية صغير يبعدك عن الحرية أو يعمل على حرمانك منها. هناك مهندسون وأطباء وتجار ومدرسون وعمال.. و.. و.. إلخ.. هناك أصحاب مهن ووظيفة رجال السياسة هي فقط إتاحة الفرصة لهم للإبداع في عملهم. انظر حولك.. هناك أرض مطلوب زراعتها، وصحراء مطلوب إصلاحها، وهناك مياه نقية المطلوب حمايتها من التلوث، وهناك مياه مطلوب تنظيفها وهناك مواطنون يبحثون عن فرص عمل، وهناك عالم بأكمله خارج حدودك المطلوب أن تتعامل معه بغير أكاذيب وبغير خداع. هناك أطفال مطلوب تعليمهم، ومطلوب أيضا حمايتهم من معلميهم لكي لا يزرعوا فيهم كراهية العمل والحياة، عليك أن تراقب ذلك كله لكي تتأكد أنه يسير في طريقه الصحيح. هكذا يمكن القول إن كل ما لا يؤدي إلى تحقيق إنجاز مفيد للبشر على الأرض هو كذبة كبرى وهو الطغيان بعينه. الحرية هي القدرة على العمل بكفاءة والأحرار هم من يمارسون عملهم بكفاءة.