لست أنا العاشق الوحيد

TT

قبل أعوام انطلقت بسيارتي وحيدا من الرياض قاصدا الطائف، وكان الوقت شتاء وماطرا، وبعد أن قطعت أكثر من (600) كيلومتر إذا بسيارة شرطة من أمن الطرق تتجاوزني، وأخذت أراقبها حتى اختفت من ناظري، وكنت وقتها أسلي نفسي بالاستماع إلى تسجيل لعازف ربابة يتغنّى ببعض أشعار من الغزل النبطي التي يحبها قلبي، وبينما أنا في هذا الجو المفعم بالنشوة والسلام الداخلي، وإذا بي أشاهد من بعيد سيارة الشرطة نفسها متوقفة بجانب الطريق، وعندما اقتربت منها إذا برجل الشرطة ينزل منها ويؤشر لي أن أتوقف، واستغربت من إشارته، وقبل أن أصل إليه تطلعت إلى عدّاد السرعة ووجدته أقل من مائة كيلومتر بالساعة، وهذا يدل على أنني معتدل السرعة، وماشي حسب القانون، وتطلعت إلى صدري ووجدت أنني رابط حزام الأمان على الآخر، وزيادة مني على الحرص أطفأت آلة التسجيل، بل إن الأوراق والمجلات التي كانت مطروحة على الكرسي الذي بجانبي تناولتها و(دحشتها) كلها تحت الكرسي بما فيها عبوة المياه التي كنت أشرب منها طوال الطريق، وعندما تأكدت أن الأمن داخل سيارتي مستتب وأن لا شيء هناك من الممكن أن أعاقب عليه، أخرجت من باب الاحتياط رخصة السواقة التي تخصني مع استمارة السيارة تحسبا للطوارئ، وتوقفت بهدوء خلف سيارته.

وأخذ يحرك لي يده علامة أن أهبط وآتي إليه، وهذا ما فعلته وكان وجهي أثناءها جامدا تعلوه مسحة من الحذر والخوف والدهشة والتساؤل، وتفاجأت أن ذلك الشرطي يقابلني بابتسامة ملائكية لم أتوقعها، وما إن وصلت إليه حتى وضع يده اليسرى على كتفي، وهو يشير لي بيده اليمنى على مستنقع أو بحيرة صغيرة غير بعيدة خلّفتها الأمطار، وكان فيها وحواليها سرب من الطيور المهاجرة، بعضها يشرب، وبعضها يسبح، وبعضها يغرّد، وعلى حافة الأفق شمس الغروب المتعددة الألوان تكاد تغرق خلف السحاب.

وقال لي: إنني مستمتع بهذا المنظر ونذرت على نفسي أن أوقف أول سائق سيارة يصل ليشاركني بهذا الاستمتاع الذي أنا فيه، وكنت أنت أول الواصلين.

ومن الصعب أن أصف لكم وقتها شعوري وإحساسي الذي تملكني وكنت فيه، أولا: من الراحة والاطمئنان الذي نزل على نفسي بردا وسلاما، وثانيا: من إكباري لذلك الشرطي (الفنان) الذي أسره هذا المنظر الجميل الذي من النادر أن يتكرر، ولم أملك إلا أن أضع يدي على كتفه كذلك، قائلا له: شكرا شكرا.

وأخذنا نتأمل سويا هذا المشهد الرائع صامتين لعدّة دقائق حتى اختفت الشمس.

عندها تركني وتحرك ليركب سيارته، فاستوقفته قائلا: تسمح لي أن أهديك هدية؟ فتعجب من عرضي هذا، فقلت له مازحا: اطمئن فليس في هديتي التي سوف أقدمها لك ما يزعج. وذهبت إلى سيارتي وأخرجت شريط تسجيل مغني الربابة وقدمته إليه، فأخذه مني شاكرا، وطلب مني هو بالمقابل أن أعطيه رقم تلفوني، وأعطيته إياه، وذهب كل منا إلى حال سبيله، وأنا واصلت رحلتي إلى الطائف، وهو استدار بسيارته وكأنه عائد إلى الرياض لاستكمال مهمته التي يذرع فيها الطريق طوال اليوم ذهابا وإيابا، ونسيت الموضوع.

وقبل أن أصل إلى الطائف بخمسين كيلومترا تقريبا، إذا بي أتلقى اتصالا هاتفيا، وما كدت أضع السماعة على أذني حتى تناهى لي عزف الربابة، وأول ما خطر على بالي أنها مجرد معاكسة من فتاة لعوب تريد أن تتسلى، وقبل أن أغلق الخط إذا بصوت الشرطي يأتيني شاكرا وهو يقول: هل تصدق أن هذا التسجيل هو أغلى هدية تلقيتها في حياتي؟

فقلت له: إذن لست أنا العاشق الوحيد في هذه الدنيا.

وانتهت المكالمة.