تونس: ديموقراطية المصالح الوطنية العليا!

TT

ستجري الانتخابات التشريعية والرئاسية التونسية يوم الأحد المقبل، وهي انتخابات مهما سيقول المعارضون من الخارج، والذين يديرونهم، فيها إلاَّ أنها تبقى ممارسة ديموقراطية بالحدود المعقولة والمقبولة، وذلك لأن الكمال لله وحده سبحانه وتعالى ولأنه غير جائز مقارنة وضع أي دولة من دول العالم الثالث، وسواءً كانت آسيوية أم إفريقية أو من إحدى دول أميركا اللاتينية، بوضع دولة من العالم الأول عريقة في ديموقراطيتها كفرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا أو اليابان.

هناك حديث نبوي شريف يقول: «إن المـُنْبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»، والمنبت هو المستعجل الذي ينهال على راحلته رفساً وضرباً إلى أن يقتلها وتكون النتيجة أنه يخسر هذه الراحلة وأنه في الوقت ذاته لم يصل إلى المـُبتغى الذي يريد الوصول إليه وهذا ينطبق حقيقة على الكثير من الدول التي خرجت توّاً من واقع أنماط الحكم الآسيوية والإفريقية إلى أنماط الأنظمة الديموقراطية فوقعت في الارتباك والفوضى والإرهاب.

في منتصف خمسينات القرن الماضي وتحديداً في عام 1957 كان العاهل الأردني الراحل الملك حسين قد عاد توّاً من بريطانيا، بعد أن أنهى دراسته في كلية «ساند هيرست» العسكرية، إلى مواقع المسؤولية في دولة تقع في قلب عالم عربي تعصف به الانقلابات العسكرية والمؤامرات وارتدادات زلازل الحرب الباردة ولكنه ورغم كل هذا اختار أن يطبق ديموقراطية الغرب التي كان تأثيرها عليه قد وصل إلى حدود القناعة الراسخة في هذا البلد الذي كان يقع على رأس قائمة دول العالم الثالث والذي كان مثله مثل بعض الدول العربية الأخرى قد خرج مهزوماً من حرب عام 1948 واستقبل أكبر موجة من اللاجئين الفلسطينيين وكان لم يتخلص نهائياً من كل تأثيرات الانتداب البريطاني على بلاده.

وهكذا فقد سمح الملك حسين الشاب المتأثر بالغرب وحضارته وديموقراطيته بالحريات العامة حتى الحدود القصوى، المبالغ فيها، من حرية الأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي وحزب البعث إلى حرية الصحافة وحرية الكلمة وكانت النتيجة أن ركب الضباط المتأثرون بانقلاب جمال عبد الناصر وزملائه في مصر وبالانقلابات العسكرية المتلاحقة في سوريا وبحركة مصطفى كمال (أتاتورك) في تركيا في مطلع عشرينات القرن الماضي، الموجة الحزبية كما ركبوا الدبابات للانقلاب على نظام لم يشفع له أنه اختار الخيار الديموقراطي وانتقل بالأردن من واقع النمط الآسيوي الاستبدادي إلى واقع الديموقراطية الغربية.

وكانت النتيجة أنه لم يصبح أمام الملك حسين إلا خيارين لا ثالث لهما فإمَّا أن يرتد على هذه التجربة ويعود بالأردن إلى الواقع الذي كانت تعيشه المنطقة كلها وأما أن يترك البلاد لتدخل أشداق المجهول وتذهب إلى الانهيار والتمزق وكما هو عليه الآن واقع العراق وواقع الصومال وواقع دول إفريقية كثيرة فاختار الخيار الأول تماشياً مع المصالح الوطنية العليا للمملكة الأردنية الهاشمية.

ثم وهناك بالإضافة إلى هذا الدرس الأردني ذلك الدرس الجزائري والدرس الفلسطيني، حيث بمجرد أن أوصلت صناديق الاقتراع قوى الإسلام السياسي جبهة الإنقاذ الإسلامي و«حماس» إلى مواقع المسؤولية تحركت هذه القوى للسيطرة على الحكم بصورة نهائية وبادرت فوراً إلى تمزيق «التذاكر» الديموقراطية التي أوصلتها إلى هذه المواقع وأخذت تعمل وتتصرف من أجل الاستئثار بالنظام وفرض نفسها بالقوة على الآخرين الذين من المفترض أنهم الشركاء الديموقراطيون في المرحلة الجديدة.

إن هذا هو الواقع، الذي هو وللأسف يعاكس رغبة الحكام المتنورين، بالإضافة إلى الشعوب التي يهمها الخبز أكثر بألف مرة مما تهمها الديموقراطية، وهو واقع ينطبق على تونس التي يجب وبالضرورة أن ننظر إلى تجربتها في ضوء ما كان عليه الواقع عشية السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1987، حيث أصبح «المجاهد الأول» الحبيب بورقيبة، رحمه الله، في نهايات خريف العمر وأصبح غير مسيطر على شؤون دولة مستهدفة وأصبحت حتى القرارات السيادية خاضعة لأمزجة الذين كانوا يحيطون به والذين كانوا يستغلون شيخوخته وعجزه لأغراض شخصية ليس في بعض الأحيان بل في كل الأحيان.

لا يستطيع أيٌّ كان الانتقاص من قيمة ومكانة الحبيب بورقيبة فهو كان «المجاهد الأكبر» عن حق وحقيقة وهو كان يسبق عصره بفترة طويلة وهو بالإضافة إلى أنه كان أحد رموز القرن العشرين من الناحية السياسية فإنه في الوقت ذاته قد ترك لتونس تراثاً اجتماعياً وضعها في مقدمة دول العالم في هذا المجال، لكن وبما أن لعامل العمر أحكاما فإن المؤكد أنه لو لم يتحرك الرئيس زين العابدين بن علي في السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) ويمسك بزمام الأمور بسرعة وبحزم فإن هذا البلد الجميل كان سيغرق حتماً بتجربة كالتجربة الصومالية أو على الأقل بتجربة الجزائر العظيمة التي هي أيضاً لو لم تنته القيادة فيها ليد هذا المجاهد المخضرم عبد العزيز بوتفليقة لكانت الأمة العربية قد خسرت دولة رئيسية وأساسية.

جاءت خطوة السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1987 بالإضافة إلى أنها كانت خطوة إنقاذية وتصحيحية انتشلت تونس في اللحظة المناسبة من الفوضى والانهيار، كخطوة اعتراضية للإرهاب الذي أراده المخططون من الخارج أن يبدأ بهذا البلد الذي يعتبر بوابة شمالي إفريقيا ويقيناً لو أن ما حصل لم يحصل ولو أن زين العابدين بن علي لم يتحرك في اللحظة المناسبة لكانت «تورا بورا» مبكرة قد تأسست في هذه المنطقة وأن حال المغرب العربي وأوروبا الواقعة على الطرف الآخر من البحر الأبيض المتوسط لم تكن هذه الحال ولما استطاعت الجزائر أن تسيطر على الإرهاب وتقضي عليه.

إنه على الذين «يتفلْسفون» الآن ويأخذون على «ديموقراطية» تونس أنها ليست بمقاسات ديموقراطيات الدول العريقة أن يتذكروا كيف أن الولايات المتحدة، هذا العملاق الديموقراطي العظيم، قد تحولت بعد كارثة الحادي عشر مـن سبتمبر (أيلول) عام 2001 إلى دولة «بوليسية» في الداخل وإلى دولة غزوٍ وحروب في الخارج فالاستقرار يتقدم على الديموقراطية وبخاصة في الدول المـُستهدفة والشعوب حتى الشعوب الغربية تقدم استحقاقات الأمن والخبز على استحقاقات الحريات العامة، أما بالنسبة إلينا فإنه لابد ودائماً وأبداً من تذكر الآية الكريمة القائلة: «.. فلْيعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف».

لاشك في أن «الديموقراطية» قيمة لا تقدر بثمن ولا شك في أن هذه القيمة ستبقى مطلباً لكل شعوب الأرض ومن بينها الشعوب العربية لكن ومع الإيمان بهذا والإصرار عليه يجب الأخذ بعين الاعتبار أن هناك قوىً سياسية تريد هذه «الديموقراطية» لمرة واحدة وهي الوصول إلى سدة الحكم والبقاء هناك إلى الأبد وهذا ما أكدته تجربة الجزائر وتجربة «حماس» في غزة وما كان من الممكن أن تؤكده تجربة تونس، حيث لو أنه لم يتم حسم الأمور وبسرعة في السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1987 فإن هذا البلد سيكون الآن بؤرة إرهابية وسيكون بوابة للإرهاب في اتجاه المغرب العربي كله وفي اتجاه الضفة الأخرى المقابلة من البحر الأبيض المتوسط.

وبهذا فإنه حتى وإن كانت انتخابات تونس الرئاسية والتشريعية التي ستجري يوم الأحد المقبل ليست بالمستوى الذي يتطلع إليه الشعب التونسي والقيادة التونسية إلاَّ أنها تبقى وفي كل الأحوال خطوة في اتجاه هذا المستوى المنشود وتبقى الضمانة للأمن والاستقرار في بلد إن هو فقد أمنه واستقراره فإنه سيفقد نفسه وأن شعبه سيعاني من الكثير من الخوف والكثير من الجوع.. إنها ديموقراطية المصالح الوطنية العليا.