الدرع الصاروخية في ظل لعبة الأمم

TT

لكل بلد أو قوة كبرى مُسلّمات جيوبوليتيكية لا يمكن التنازل عنها لأنها مصيرية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن لأميركا أن تتنازل عن السيطرة على البحار، فقط لأنها بلد يحده المحيطان الأطلسي والهادئ. من هنا امتلاكها لأكبر أسطول بحري. ألم يقل جورج واشنطن إن أميركا دون قوة بحرية لا تساوي شيئا؟

ينطبق هذا القول على إسرائيل. فهي تعتبر الضفة الغربية من المسلّمات التي لا يمكن أن تتخلى عنها لأنها كانت ولا تزال تشكل نواة المشروع الصهيوني. من هنا قد تُفهم التعقيدات التي تحول دون إرساء حل الدولتين.

لا تختلف روسيا عن القوى الأخرى. فهي لديها مُسلّمات جيوبوليتيكية لم تتغيّر منذ أيام القيصر الأول إيفان الرهيب، وحتى الرئيس ميدفيديف، مرورا ببطرس الأكبر وكاترين الكبرى. يندرج في المسلّمات ما يُسمى «المُحيط المباشر» بالمعنى الجيوبوليتيكي، وكأنه عماد الكيان الروسي وعماد الأمن القومي.

يتمثل المُحيط المباشر اليوم بالنسبة إلى روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بالخط الممتد من جورجيا، أوكرانيا وحتى بحر البلطيق، مرورا بتشيكيا وبولندا. فلكل بلد من هذه البلدان ذكرى معينة في الذاكرة التاريخية الروسية ـ أغلبها دموية.

تُعتبر أوكرانيا الخاصرة الطرية لروسيا. أما إذا خرجت جورجيا من تأثير المدار الروسي، فتخرج كل مناطق القوقاز الجنوبي ليتفكك الاتحاد.

إذا وقعت بولندا تحت تأثير دولة عظمى منافسة، قد تكون منصة الانطلاق الأخطر إلى قلب روسيا، في ظل غياب أي مانع جغرافي طبيعي. ألم تكن بولندا تاريخيا ممر الغزاة إلى روسيا؟

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تخلت روسيا عن المنافسة الجيوبوليتيكية مع الغرب لتنصرف إلى تحسين الاقتصاد. سُمي هذا السلوك عقيدة أندروبوف. فما كان من الغرب ـ أميركا تحديدا ـ إلا أن بدأ بتوسيع حلف الناتو حتى وصل إلى المحيط المباشر لروسيا الاتحادية. بعدها كانت الحرب على صربيا الحليف الوحيد لروسيا، وذلك دون الأخذ في الاعتبار مصالح الدب الروسي. هذا عدا ظاهرة الثورات المخملية الملونة في المحيط المباشر.

ثم كانت الضربة القاضية لروسيا اعتراف أميركا وبعض حلفائها باستقلال كوسوفو.

تيقنت روسيا بعد هذه الأحداث أن الغرب، وخاصة أميركا، لا يأبه للمصالح الروسية، حتى أن روسيا لا تدخل أبدا في أي حساب جيوبوليتيكي أميركي، هذا مع العلم أن روسيا بوتين كانت إلى جانب أميركا بوش عقب أحداث 11 أيلول في الحرب على أفغانستان.

روسيا بوتين، هي غير روسيا يلتسين. فمع الأخير، نُهبت الثروات الروسية تحت شعار الليبرالية والتحديث والانخراط في ثقافة العالم الغربي. أما مع بوتين، فقد شهدت روسيا مقاربة في التعامل مع المحيط المباشر، كما مع القوى الكبرى تقوم على ما قاله بوتين حول انهيار الاتحاد السوفياتي على أنه أكبر كارثة جيوبوليتيكية في القرن الماضي. وهذا أمر يعني السعي لاستعادة بلاده مركزها العالمي وليس الإقليمي فقط. وإذا كان سقوط الدب الروسي قد حصل بدون حرب كبرى، فإن استعادة روسيا مركزها قد تحتم استعمال القوة. وقد شكلت حرب العراق والغرق الأميركي فيها المناسبة الأهم لبوتين كي يتحرر. فعندما انشغل العم سام ولم يعد لديه القدرة العسكرية على التعامل مع كل مشكلات العالم، تراجعت قدرته الردعية، خاصة بعد الأزمة المالية. وكان إعلان العودة الرسمية لروسيا إلى المسرح العالمي ـ الإقليمي، في حربها الأخيرة على جورجيا.

بدأ مشروع الدرع الصاروخية في أوروبا مع الرئيس بوش على أنه موجه في الشكل ضد الصواريخ الإيرانية، لكنه في المضمون، هو حتما ضد روسيا الاتحادية وضد أمنها القومي.

فماذا عن هذه الدرع؟

إنها درع تقوم على ثنائية هي الرادار في تشيكيا وبطاريات الصواريخ في بولندا. يُشكل البلدان ممرا حتميا للصواريخ الإيرانية في حال وجودها، وذلك بسبب حركة دوران الأرض، ولأن الهدف هو الأرض الأميركية.

إنها درع لم تجرَّب عملانيا، لا بل كان الفشل هو المسيطر بشكل عام ـ حتى أن الدول المعنية لم توقع الاتفاقية الأمنية في ما بينها. إنها درع وهمية حتى الآن.

إنها درع تتعامل مع الصواريخ البعيدة المدى، ولها قدرة محدودة على التصدي لعدد معين من الصواريخ.

إنها درع لا تحمي بولندا وتشيكيا من الصواريخ الروسية. على كل، يمكن إغراق هذا النظام بأكثر من قدرته على التصدي للصواريخ، إذ يكفي أن يعبر صاروخ نووي واحد ضد بولندا لتزول عن الخريطة.

ولكن كيف ينظر الأفرقاء إلى الدرع؟

تعتبر روسيا أن الدرع جزء من استراتيجية أميركية كبرى لإعادة احتوائها على غرار ما حصل في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. فهي في المحيط المباشر لروسيا الأمر الذي يعتبر انتهاكا للأمن القومي الروسي. وهذا في الوعي الروسي سلوك يعتبر من ضمن نمط اعتمدته أميركا تجاه روسيا منذ العام 1989. فروسيا لم تنسَ توسع حلف الناتو حتى محيطها المباشر، والحرب على صربيا، والاعتراف بكوسوفو والثورتين الملونتين في جورجيا وأوكرانيا. تعرف روسيا أنها قادرة على تخطي الدرع عبر إغراقها بالصواريخ. لكنها تقلق من عملية مأسسة الوجود الأميركي العسكري في بولندا. وهذا لا يمكن روسيا أن تقبل به لأن الأرض البولندية كانت الممر الأساسي لكل الغزوات إلى قلب روسيا عبر السهل الأوروبي الشمالي.

• تعتبر بولندا وتشيكيا أن الدرع ليست بالأمر المهم. لكن المهم، أن هذه الدرع، يُضاف إليها الوجود الأميركي العسكري المباشر، قد تعني الضمان المباشر للحماية الأميركية للبلدين وذلك من خارج إطار حلف الناتو.

• تعتبر القوى الأوروبية أنه لا لزوم لهذه الردع خاصة بعد زوال الخطر السوفياتي، اللهم إلا إذا أرادت أميركا اللعب بالنار مجددا، وأوروبا لا تريد ذلك خاصة في ظل حاجتها إلى النفط والغاز الروسيين.

تعتبر أميركا الدرع الصاروخية سيفا مصلتا على رأس روسيا وتقول إنها مستعدة للتخلي عنها إذا تخلت روسيا عن دعمها لإيران. وترد روسيا بأنها مستعدة لذلك فقط عندما تقبل أميركا بمناطق نفوذ روسيا المباشرة.

تزامن إعلان وقف إتمام الدرع الصاروخية مع حدثين مهمين هما: ذكرى اجتياح ستالين لبولندا واجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكذلك مع مناورات إسرائيلية ـ أميركية مكثفة، تحاكي الخطر الصاروخي السوري ـ الإيراني وخطر حزب الله. وسبق هذه المناورة نشر أهم رادار أميركي من نوع X ـ BAND على الأرض الإسرائيلية مع الجنود اللازمين لتشغيله.

كيف تعامل المعنيون مع القرار الأميركي؟

رحبت أوروبا به لأنه ينزع فتيل الصراع بين روسيا وأميركا، خصوصا أن مسرح الصراع هو الأرض الأوروبية. ورحبت روسيا بالخطوة، وردت عبر دفع ثمن مباشر، إذ قررت عدم نشر صواريخ «اسكندر» في مقاطعة كاليننغراد. كما فتحت إمكان إيصال اللوجستية اللازمة لقوات الأطلسي في أفغانستان عبر الأراضي الروسية وآسيا الوسطى.

وانتقد اليمين الأميركي القرار لأنه قوّى روسيا وأضعف أميركا. ويرد البعض في أميركا على اليمين بأن القرار قد نزع من يد الرئيس ميدفيديف ورقة ضغط. كذلك، وحسب ما قاله وزير الدفاع الأميركي، فإن الدرع الصاروخية مستمرة، لكن بشكل مختلف وأفعل. فيأتي الرد على الرد، لماذا هذا التوقيت، ولماذا اختيرت بولندا وتشيكيا في البدء إذا كان النظام الجديد والمُقترح اليوم هو أفضل عملانيا، وجاهزا للاستعمال؟ وفي هذا الإطار، ألم يكن يعرف بوش كل هذه الأمور؟ بالطبع نعم.

للرد على هذه الأسئلة، يجب متابعة مؤشرات هذا الإلغاء، وذلك عبر متابعة سلوكيات الدول المعنية، أي إيران وروسيا والولايات المتحدة وخاصة إسرائيل. فالصفقات الكبرى عادة لا تُعلن. وما على المتابعين إلا رصد المؤشرات والأنماط لدى اللاعبين الأساسيين بهدف تركيب الصورة من تحت نحو الأعلى.

هل تتخلى روسيا عن إيران؟ ربما، لكن الأمر يبقى في البحث عن الأثمان. ويقول البعض إن روسيا لن تتخلى عن إيران مطلقا، فقط لأن المبادرة اليوم هي بيد روسيا في ظل تراجع القدرة الأميركية.

لكن ما هي أهمية إيران لروسيا؟

في ظل اعتماد بوتين أيديولوجية الأوراسية التي تقوم على اعتبار أن لروسيا حضارة مستقلة تقوم على التنوع الداخلي وعلى تاريخ طويل، يسوّق مفكرو هذه الأيديولوجية، وعلى رأسهم ألكسندر دوغين، أنه من الحيوي أن تعود روسيا إلى مصاف الدول الكبرى. وهنا تدخل إيران كعامل أساسي في اللعبة الروسية، لأنها تضرب مباشرة الاستراتيجية الأميركية الكبرى. ففي حال الحلف الروسي الثابت مع إيران، قد يمكن للعسكر الأوراسي في وقت ما، أن يغسل رجليه في مياه الخليج العربي الدافئة. ويكفي في هذا الإطار أن نلقي نظرة من فوق على موقع إيران الجغرافي، وعلى ما تملكه من ثروات، وما هو المحيط الذي تلعب فيه لعبتها الجيوبوليتيكية، وعلى من تؤثر في لعبة مصالحها. لذلك يمكن القول إن ثمن إلغاء الدرع الصاروخية قد لا يضم التخلي الروسي عن إيران، خاصة أن الأخيرة هي العامل الأساسي لتغيير كل قواعد اللعبة في الشرق الأوسط. وبذلك قد يمكن تكرار ما قاله المفكر الأميركي ريتشارد هاس، عن أن العراق كان سبب دخول أميركا المباشر إلى المنطقة، وقد يكون هو سبب الخروج الكلي لها من الشرق الأوسط. لكننا نقول إن العراق كان فعلا سبب الدخول الأميركي إلى المنطقة، لكن الخروج سوف يكون على يد إيران.

في الختام، يبدو أن المنطقة ذاهبة في ظل هذه المعادلة إلى مزيد من الصراعات والحروب. فمن سيعطي الشرارة، وأين ستبدأ، وما سيسببها؟ أميركا؟ إيران؟ أو إسرائيل؟ وإذا رفضت أميركا الحرب على إيران، فهل يمكن أن تجر إسرائيل أميركا إلى حرب ضد إيران لا تريدها؟

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي