شرق أوسط.. قديم

TT

هل سقط رهان إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش على «شرق أوسط» جديد تسوده الديمقراطية والهيمنة الأمريكية أم أن هناك شرق أوسط «قديما» سيبصر النور مجددا... ولكن على يد قابلة تركية؟

ملامح الشرق أوسط «القديم» يمكن أن تلمسها مما يشار إليه، تلميحا، بمشروع محور تركي ـ سوري ـ إيراني في المنطقة.

حجر رحى هذا المحور، في الوقت الحاضر على الأقل، هو تركيا التي ظلت، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، تدير ظهرها لدول المشرق العربي.. استنكارا لـ«خيانتهم» الخلافة العثمانية.

هذه الخلفية التاريخية جعلت البعض يعتبر عودة تركيا إلى ساحة القرار الشرق أوسطي بمثابة «بعث عثماني» يحركه حنين دفين إلى عز الخلافة الإسلامية ويحفزه تنامي «الحس الإسلامي» داخل صفوف حزب العدالة الحاكم في أنقرة.

أنصار نظرية هذا «البعث» يعتبرون مواقف أنقرة الجريئة في دعم الحقوق الفلسطينية وقرارها الأجرأ بإلغاء مناورات عسكرية مشتركة مع إسرائيل.. أول الغيث على طريق «البعث».

إلا أن البعض الآخر، الأقل تسليما بعوامل التاريخ والايديولوجيا، يعتبر أن «انكفاء» تركيا على الساحة الإسلامية في الشرق الأوسط يعود إلى انسداد طريق عضويتها الكاملة في الاتحاد الأوروبي، ما يجعل «تمددها» في الشرق الأوسط عملية تعويض دبلوماسي عن الدور الذي حرمت منه على الساحة الأوروبية.

وغير خاف أن التوجه التركي الجديد يأتي في وقت أصبح فيه الشرق الأوسط ملعبا مفتوحا يفتش عن لاعب ماهر قادر على تغيير قواعد اللعبة فيه بعد أن فشل اللاعب «الغربي» في تغييرها بالقوة في العراق وأفغانستان وبالدبلوماسية في فلسطين.

«جيوسياسيا».. من أنسب من اللاعب التركي (المسلم) للعب دور الحكم في ملعب يظل إسلاميا مهما تعددت هويات المتبارين على أرضه؟

ولكن المؤسف في هذا التطور أن نزول اللاعب التركي إلى ملعب الشرق الأوسط ما كان يحصل لولا غياب اللاعب العربي عنه منذ العام 1978 (اتفاقية كامب ديفيد)، فرغم المساهمة السورية «الخجولة» في المحور التركي ـ الإيراني النامي يبقى الفراغ الذي خلفه غياب القرار العربي الموحد عن هذا الملعب المدخل المتاح لعودة اللاعب التركي إليه.

ربما تتوخى تركيا أن تعوض في القرن الحادي والعشرين ما فاتها من دور إقليمي في القرن العشرين. وإذا كانت تأخرت بعض الشيء عن استعادة موقعها السابق في الشرق الأوسط فقد يعود ذلك إلى أنها كانت، مرغمة، رهينة عوامل خارجية وداخلية خارجة عن إرادتها:

ـ داخليا، كانت تركيا مثالا ناجحا لحالة من الديمقراطية الفصامية: حكومة منبثقة عن برلمان منتخب ديمقراطيا، وحكومة ظل عسكرية تمسك بالقرار السياسي من وراء الستار. هذه الحالة الفصامية أعطت الجيش التركي «العلماني» سطوة أقوى من نفوذ الحكومة «الإسلامية»، وقدمت التحالف مع إسرائيل على أي علاقة وثيقة مع العالمين العربي والإسلامي.

وداخليا أيضا، لم يكن وضع الاقتصاد التركي المتعثر طوال سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، يسمح لأنقرة بالتقاط أنفاسها والتفرغ لدور إقليمي يتعدى حدودها.

ـ خارجيا، ولغاية انهيار الاتحاد السوفياتي، شكل الدور الأطلسي لتركيا الأولوية المطلقة في استراتيجيتها الإقليمية فكان أن حال ارتباطها بالاستراتيجية الأمريكية، إضافة إلى علاقتها الوطيدة مع إسرائيل، دون انفتاح الشرق الأوسط العربي عليها، فيما استنفذ سعيها المضني لكسب عضوية الاتحاد الأوروبي معظم جهودها الدبلوماسية. (وفي هذا الإطار شكلت عقدة «مجازر» الأرمن عامل ربط آخر بإسرائيل أمنته الدولة العبرية بتكليف اللوبي الصهيوني في واشنطن الحؤول دون توصيف الكونغرس الأمريكي لهذه المجازر «بحرب إبادة» للشعب الأرميني).

ولكن تركيا القرن الحادي والعشرين غير تركيا القرن العشرين: ديمقراطيتها السياسية تجذرت إلى حد مكن «المدني» من التفوق على «العسكري» (رغم أن الجيش التركي لا يزال لاعبا رئيسيا على الساحة الداخلية)، ومعظم مشاكلها الاقتصادية تم تجاوزها، بحيث أصبحت قوة إقليمية يصعب تجاهلها.. وأخيرا لا آخرا التزمت في عهد حكومة حزب العدالة، ولا تزال، استراتيجية إقليمية أقل التصاقا بالاستراتيجية الأمريكية (ظهرت أولى بوادرها في رفضها السماح لسلاح الجو الأمريكي استعمال مجالها الجوي لقصف العراق).

على هذه الخلفية يجوز الترحيب بعودة تركيا إلى الشرق الأوسط.. والأمل في أن لا تمدّ هذه العودة بغياب القرار العربي عنه.