إيران والعرب والمجتمع الدولي.. نقاط الضغط والتأثير

TT

ما عانت إيران منذ الحرب مع العراق ما تعانيه اليوم. إذ هي تحس أنها محاصرة من الداخل (بالانقسام بعد الانتخابات)، ومن الخارج باللطف الأوبامي الأميركي (الذي زاد في الرقة حتى انفلقا)! أيام بوش ما كان الأمر كما هو الآن؛ فقد أفادت إيران من الإدارة البوشية في عهديها كليهما: في العهد الأول من موقع الصديق أو الحليف السري، وفي العهد الثاني لبوش أفادت الجمهورية الإسلامية من موقع الخصم المحفوظة حصته، والمشكلة معه ليست تلك الحصة، بل ما يريده من زيادات عليها، ومنها النووي! أما اليوم فالمصيبة في الرقة الأميركية المتناهية، والغموض الروسي، والغلاظة الفرنسية غير المبررة. ثم هناك العرب الأصدقاء الذين يوشكون أن يتحولوا إلى خصوم مثل سورية. فسورية تخطب ود أميركا وإسرائيل علنا، وإن تكن متمسكة بتركيا، باعتبارها شبكة أمان مفيدة. وكأنما لم يكف ذلك كله، فعلى مشارف التفاوض مع الدوليين على النووي والتخصيب من جديد، تعود منظمة «جند الله» البلوشية المتطرفة إلى العمل على الحدود بين باكستان وإيران وأفغانستان، وتنجح في اقتحام اجتماع لشيوخ القبائل الشيعة والسنة مع ضباط كبار من الحرس الثوري الإيراني، يسقط ضحايا فيه يناهز عددهم الأربعين، بينهم خمسة عشر ضابطا من الحرس الثوري، ومن ضمنهم جنرال هو نائب قائد القوات البرية بالحرس. وبالنظر للضيق الذي تعاني منه إيران، فقد كان هناك من قال إنها سترفض القبول بشروط التفاوض، وإن تكن قد أظهرت قبولا في الشهر الماضي. كما كان هناك من قال إن ضغوط التهديد، وضغوط تشديد العقوبات (للمرة الرابعة)، كل ذلك سيدفع إيران لحني الرأس للعاصفة مؤقتا، حتى ترى كيف تنتقم من الدوليين ومن العرب فيما بعد في ظروف أكثر ملاءمة.

والذي أراه، وبغض النظر عن أهداف البرنامج النووي الإيراني، فإن إيران اختارت المزاوجة بين أمري الشدة واللين، وليس في النووي فقط، بل وفي الاقتصادي والاستراتيجي ومسائل العلاقات الثنائية والجماعية مع العرب. فبالنسبة للتفاوض في جنيف، لن ينتهي الأمر في هذه الجولة، وسيعود الدوليون مرة وربما مرتين لاستحثاث إيران بالكشف عن نواياها لجهة إنتاج النووي واستعماله. وإيران من جهتها ستماطل في المفاوضات دون أن تقطعها، وهي متعلقة بأمرين: التركيز على نشاطات الخصم ـ وهو في هذه الحالة إسرائيل ـ والتركيز على «دول الاعتدال العربي» (= دول التضامن العربي) من حيث نشر الاضطراب من حولها، ونشر بقع التفجير بداخلها وجوارها. والواقع أن الولايات المتحدة لا تريد إعطاء إيران شيئا في النووي، كما أنها لا تريد إعطاءها شيئا غرب الفرات. ولأن الطرفين يعرف كل منهما الآخر جيدا وباستمرار منذ نحو ثلاثين عاما، فليس من المنتظر أن ظهر موقف متحمس لحماس، والآخر للسلطة الفلسطينية خلال الأيام القادمة، وإنما من المنتظر أن تظل إيران مؤثرة في الموقف الأخير لحماس من المصالحة. ولا شك أن حماسا محرجة جدا الآن. فمن جهة اضطرت في الشهور الأخيرة إلى وعد المصريين جازمة بالتصالح والمصالحة. ومن جهة ثانية ليس هناك بدائل إن قررت حماس نقض الهدنة مع إسرائيل، أو شن هجوم صاروخي عليها. ولذا، واستجابة لأمر إيران حماسا بالتمهل انتظارا لنتائج المفاوضات، زعمت حماس أولا أنها لن تصالح فتحا والسلطة، لأن السلطة خانت بالموافقة على تأجيل تقرير غولدستون. فلما عاد التقرير على الطاولة وأقر بأكثرية 25 صوتا، اختلفت أسباب حماس لتأجيل المصالحة. فمنهم من قال لأن هناك ملاحظات سقطت من النسخة الأخيرة. وهناك من قال إن ها هنا ملاحظات لا نوافق عليها نحن ولا التنظيمات الأخرى، ولذلك لا بد من إبلاغها لمصر لترى رأيها قبل المصالحة. وقد رفضت مصر المحاولات والشروط، ودعت الفريقين الفلسطينيين للتوقيع الفوري. ولما فعلت ذلك فتح ولم تفعله حماس، غضب المصريون واتهموا حماسا بشتى التهم ومن بينها الإصغاء لدول عربية (دولة قطر)، وأخرى إقليمية (إيران). والواقع أن إيران هي التي تمثل الآن دور الرفض والممانعة، ولذلك فالمطلوب تأخير المصالحة الفلسطينية لإثبات النفوذ والتأثير، وإزعاج العرب، وربما إزعاج الأميركيين إذا عاد التوتر بين حماس وإسرائيل أو بين إسرائيل وحزب الله.

وإذا كانت حماس وكان الملف الفلسطيني نقطة ضغط وتأثير في يد إيران، فكذلك الأمر في الملف العراقي، أو بعبارة أخرى انفجار العلاقة بين العراق وسورية. وقد استمات الأتراك في محاولات التهدئة والإرضاء. لكن في زيارة أردوغان الأخيرة إلى بغداد، وتوقيع نحو خمسين اتفاقا، كان هناك من قال: نحن مستعدون لتوقيع خمسين اتفاقا آخر مع تركيا، لكننا لن نقبل وساطتها لحل المشكل مع سورية لأنه مصطنع، وعلى سورية أن تتصرف وليس تركيا!

وما تؤثر به إيران في إزعاج سورية لاندفاعها باتجاه الولايات المتحدة، وتصالحها مع السعودية، تؤثر به أكثر في لبنان. إذ عندها في لبنان حزب الله وسلاحه والتحالفات التي نسجها في السنوات الأخيرة على الساحة اللبنانية. والمعروف أن سعد الحريري، المكلف من مجلس النواب (الذي يملك أكثرية فيه) يحاول تشكيل حكومة منذ أربعة أشهر دون جدوى. وكان يظن أن سورية لا تريد، لكنها عبرت عن تأييدها للحريري بوسائل شتى بعد زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز لدمشق. على أن التأييد السوري ما سرع في تشكيل الحكومة، لتعمد حزب الله وحليفه الجنرال عون إظهار نفوذهم، وتعلق العرقلة والتشكيل معا بهم وليس بسورية.

وكما بدت الامتدادات الإيرانية في السنوات الأخيرة عنيفة أحيانا في العراق ولبنان وفلسطين، فإنها تبدو كذلك الآن في اليمن. فالحوثيون يعلنون دون تحرج عن استنارتهم بالنموذج الإسلامي الثوري في إيران، ووسائل الإعلام الإيرانية تنقل أخبارهم يوميا بالتفصيل. والواضح من حركتهم المستميتة أمران: محاولة اصطناع استقلالية لإقليم صعدة باسم المذهب (الشيعي) الزيدي، ومحاولة التمركز على الحدود السعودية إظهارا من إيران لنفوذها هناك، كما فعلت مع مصر من خلال حماس وغزة. وما كتمت وسائل الإعلام الإيرانية ـ كما سبق القول ـ دعم إيران للحوثيين، لكنها في المدة الأخيرة تشن حملات عنيفة على السعودية بحجة أنها تساعد الحكومة اليمنية في «حرب الإبادة» على الحوثيين.

تكشف إذن حركة إيران المتعددة الأوجه نحو المجتمع الدولي امتداداتها في العالم العربي، والتي اصطنعتها خلال العقدين الماضيين، وصارت حقيقة واقعة أيام الرئيس بوش الابن. فهناك ظاهرة حزب الله بلبنان، وهناك النظام الجديد بالعراق بشتى أطرافه، وهناك الحوثيون باليمن، وهناك الحماسيون والجهاديون بغزة، وهناك أخيرا إمكانيات تفجر العلائق المتوترة مع سورية.

ولكي يكون واضحا ما نقصده، فإن التفاوض مع الولايات المتحدة والغرب لا يشمل النووي وحسب، بل رزمة من الموضوعات والاهتمامات من جانب الطرفين. ولا يجوز اعتبار تطورات الملف النووي هي الحاكمة وحدها في طرائق استعمال إيران لامتداداتها العربية أو الإسلامية. فالواضح مثلا أن العلائق بالحوثيين وبحماس ليس لها مستقبل، ولذا فالذي أرجحه أن تستخدم إيران الأمرين بقوة الآن لاستنفاد كل الإمكانيات المتاحة فيهما. أما في العراق فتملك إيران نفوذا باقيا يبدو أن الولايات المتحدة تسلم به. وقد تستخدمه ضد سورية إذا تطورت علاقات سورية بالعرب الكبار (السعودية ومصر) وبالولايات المتحدة. وكذلك الأمر في تنفذها من خلال حزب الله بلبنان. إذ إنها تهدد من خلاله إسرائيل، كما تهدد العرب بنشر الاضطراب في بلد عربي مثلما فعلت وفعل الحزب خلال السنوات الماضية. وهكذا فهناك مناطق للتبادل مع الغرب ومع الولايات المتحدة. وهناك مناطق جرى التسليم من جانب الولايات المتحدة لإيران بها. وإذا كانت الصفقة الشاملة (على النووي وغير النووي) مستبعدة، فإن معنى ذلك أن الامتدادات الإيرانية بالعالم العربي سوف تستخدم بالتقسيط وحسب المصلحة وبالتدرج. ولدينا الآن وقائع لا يمكن تجاهلها: بدء التفاوض مع الغرب على النووي، وستحرص إيران على عدم انقطاعه أو وصوله إلى نتيجة حاسمة؛ فبذلك تأمن من زيادة العقوبات ومن تهديدات الحرب. والواقعة الأخرى: التوتر مع السعودية أو الجفاء على الأقل، والحذر والترقب الواصل إلى التوتر مع سورية. والواقعة الثالثة: التفجير الكبير الذي جرى ضد الحرس الثوري في بلوشستان. وهذا إشارة ذات دلالات، وتعني من ضمن ما تعنيه أن من يستخدم العنف ضد الآخرين يمكن أن يستخدم العنف ضده، كما تذكر إيران بوجود إثنيات ومذهبيات كثيرة على أرضها يمكن أن تضطرب وتثور، مثلما ثارت أو اضطربت الأقليات الشيعية المستثارة في العالم العربي. والواقعة الأخيرة في هذا السياق: أن المنطقة العربية لا تزال ـ لأسباب متعددة وليس بسبب إيران وإسرائيل وحسب ـ عرضة للانقسامات والاضطرابات، في الظروف المختلفة والمتباينة. وبذلك يمكن القول إن هناك حالة مسيطرة من الضعف والهشاشة، تتيح تحويلها إلى مناطق نفوذ للجوار، وللقوى الكبرى في العالم.