إنني مجنون.. ولكن على خفيف

TT

لست من المقتنعين تماما (بعلم النفس)، لأنني كلما تعمقت بنظرياته أصابتني الكآبة أكثر ـ وأنا بصراحة ماني ناقص ـ إنني ما خلقت إلا لكي أكون طروبا ولعوبا وفرحا ومتهكّما وناقلا للوشايات كذلك، وقبل ذلك كله بالطبع أن أكون عابدا لله تعالى مثلما أمرني وأمر الناس جميعا.

ولكن (بالسنة حسنة) أستمتع أحيانا بتعذيب نفسي بين الحين والآخر بقراءتي في كتب علم النفس السخيفة، مثلما حصل لي بالأمس عندما كنت أقرأ كتاب (سيغموند فرويد)، ووصلت فيما وصلت إليه إلى جملة يؤكد فيها بالحرف الواحد قائلا: لكي يتمتع الإنسان بعقل سليم، يجب أن يكون قادرا على أن يحب وأن يعمل.

توقفت عند هذا الحد، وأغلقت الكتاب، وأخذت أسائل نفسي سؤالا عسيرا: هل أنا أتمتع بعقل سليم؟!، وكيف يتأتى لي أن أعرف ذلك؟ رغم أنني على يقين أنني أحب، وما أكثر ما أحببت من البشر والحيوانات والأشجار والثمار والأزهار والأنهار والبحار وحتى الجمادات والبراكين والأعاصير والزلازل.

وما أكثر ما عملت (عمّال على بطال)، وما أكثر ما أصلحت وخرّبت وحشرت أنفي فيما لا يعنيني، وأكلت على رأسي ولم أتربَّ ولم أهتدِ ولم أسِر على الصراط المستقيم، ولكنني مع ذلك أطلب من الله العفو والعافية، ومعهما شيئا من المسرّات.

أعود لموضوعي أو سؤالي العبيط: هل أنا فعلا أتمتع بالعقل السليم رغم حماقاتي وغرامياتي وخربشاتي على الأوراق؟! إنني أشك في ذلك جدا.

ولكن هل تصدقون؟! إنني مستمتع جدا بعقلي هذا الذي (يلوّح على جنب)، لا أريد أن أكون عاقلا جدا، ولا كذلك مجنونا جدا، أريد أن أكون مثلما أنا الآن: مجنون، ولكن على خفيف.

* *

قبل مدّة اصطحبني معه رجل أعمال إلى معرض كبير في دولة أوروبية ـ ولكي أوضح الصورة أكثر ـ أقول: إنني واجهته هناك بالصدفة واقترح هو عليّ أن أذهب معه، ووافقته رأسا لأنني أتفاءل برجال الأعمال كثيرا، فقد أُصاب من بعضهم بالعدوى فتنالني بعض (الطراطيش) من أرزاق الله تعالى.

كان الرجل (كشخة) وآخر أبهة، بينما كنت أبدو بجانبه بملابسي (الاسبور) وشبشبي (الصندل) وكأنني واحد من صبيانه. دفعنا رسوم الدخول، وعلق كل واحد منا بطاقة الدخول حول عنقه، وبدأنا التجوال، وأنا مثل (الأطرش بالزفّة)، كان المعرض بمجمله يحتوي على أرقى الماركات في عالم الملابس والأزياء، وحيث أن الرجل له باع طويل في هذا المجال وهو معروف من كثرة ما يتردد على هذه المعارض في أرجاء العالم، لهذا كان الجميع يرحبون به جدا.

وتوقفنا عند جناح لإحدى الماركات، واستقبلتنا فتاة حسناء، وأخذت تشرح وتقدم لنا معروضاتها (وكاتالوجاتها)، وزيادة منها أجلستنا على كرسيين وسألتنا عن طلباتنا من المشروبات، فقال لها رجل الأعمال: نريد فنجانين من القهوة، فأحضرتهما لنا سريعا، فشربت فنجاني فيما التهى هو بمناقشتها، ثم قام لكي يذهب إلى جناح آخر، وبعد دقائق عاد إلى جناح الفتاة الحسناء ووجدها قد أخذت فناجين القهوة، فقال لها: لماذا أخذت فنجاني؟ إنني أحب أن أشرب القهوة وهي باردة. فاضطربت المسكينة واعتذرت، وذهبت على عجل وأحضرت فنجانا من القهوة وفي داخله مكعبان من الثلج، فضحك رجل الأعمال وامتعض ورفض أن يشربه، فما كان مني إلاّ أن أتناول الفنجان وأشربه قائلا للفتاة الحسناء: (تشيرز)، شربته عن بكرة أبيه مع غمزة خفيفة من طرف عيني الحولاء، فجاوبتني هي ببسمة خفيفة من طرف شفتيها الرقيقتين، وكأنها تقول لي: شكرا . وبعد أن خرجنا قال لي: هل تعرف لماذا ابتسمت لك تلك الفتاة؟! قلت له: أكيد معجبة، قال: لا، إنها استخفت بعقلك يا أهبل.