أزمة العالم ـ السياسية والأمنية ـ (اللعب بالنار) و(اللعب بالديمقراطية)

TT

«إن أجهزة المخابرات الأمريكية هي التي زرعت الإرهاب في المنطقة فهي التي أوجدت مخيمات تدريب عسكرية كما أنها هي التي أنشأت (المجاهدين) من قبل ودربتهم لقتال الاتحاد السوفيتي، وبعد سقوط الأخير تخلت أمريكا عن المنطقة وتركتها للإرهاب».. شاه محمود قرشي وزير خارجية باكستان.

والمعلومة صحيحة.. والاتهام موثق أمريكيا ـ بالذات ـ.. وتكتمل الصحة والتوثيق بضم صفحات أخرى من هذا (الملف الأسود). هذه الصفحات هي: أن باكستان نفسها لعبت ذات اللعبة مع الإرهاب أو كتائب العنف الدامي.. فعلت ذلك بالتحالف مع أمريكا.. وفعلت ذلك منفردة مستقلة.. وهذا من أقوى أسباب حنق الإرهابيين الشديد عليها، فهم يعتقدون أن باكستان خدعتهم وخذلتهم من حيث إنها استعملتهم ثم لم توف لهم بما وعدتهم به!

وللعب بالنار، أي مع العنف والإرهاب (قصة طويلة ودامية)، تبدو للنظرة الأولى أنها (صناعة أو حبكة دهاة)، لكنها عند التحقيق وقياس النتائج: دلت على (غباء عظيم) من حيث قصر النظر، وعقم الرؤية و(الفرحة الساذجة بمعالجة مشكلة راهنة)، وهي فرحة أعمت عن المستقبل ومخاطره المرعبة التي يتعذر التحكم فيها والسيطرة عليها: كما هو واقع الحال:

1ـ فمن فصول هذه القصة: اللعب الأمريكي بـ(الجهاد الديني) في أفغانستان، ففي ذروة الحرب الباردة، كانت أمريكا تستعمل كل وسيلة لاستنزاف خصمها وإنهاكه (كما استنزفها هو في حرب فيتنام مثلا)، وعندما احتل الاتحاد السوفيتي أفغانستان (كرد فعل على الثورة الإيرانية عام 1979)، وكانت لدى الاتحاد شكوك في علاقة الثورة بالأمريكان، عندما احتل السوفيت أفغانستان، كانت الاستخبارات الأمريكية قد جهزت خطة لاستغلال دين الإسلام وتوظيف طاقاته الروحية والبشرية في زلزلة الاتحاد السوفيتي، وكان يمكن أن يقاوَم السوفيت تحت شعارات أخرى مثل (الكفاح من أجل الحرية) أو (النضال الوطني ضد الاستعمار السوفيتي)، أو (مقاتلة المحتل من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية)، وهذه كلها شعارات ومبادئ جادة وجاذبة وقادرة على تعبئة الشعب الأفغاني ضد عدوان الجيش الأحمر. فمعظم دول العالم حصلت على استقلالها ـ بعد نضال مرير مع الاستعمار ـ بمقتضى هذه الشعارات والمبادئ.. بيد أن الأمريكان حرصوا على الزج بـ(شعار الجهاد الإسلامي) في هذا الصراع الرهيب بين الدولتين العظيمتين.. لماذا؟.. هل السبب هو (الميل إلى السهولة)؟.. هل السبب هو: الاقتناع بأن طاقة الدين أقوى وأشد حسما من الطاقة الوطنية؟.. هل السبب هو: أن الدولة المحتلة لأفغانستان تتبنى ـ رسميا ـ عقيدة الإلحاد، وأن المقابل المكافئ للإلحاد هو (الإيمان بالله)؟.. أيا كان السبب، فإن الأمريكان استطاعوا صبغ الكفاح الأفغاني ضد السوفيت بصبغة الجهاد الإسلامي.. وفي هذا السياق رُفع ـ بطبيعة الحال ـ شأن المجاهدين الأفغان، ومُجِّدوا تمجيدا هائلا، وهو تمجيد اقترن برفع كفاياتهم ومهاراتهم القتالية على نطاق واسع، إذ انخرط ألوف الشباب في معسكرات التدريب: في ذروة التأجيج العقدي ضد الاتحاد السوفيتي.. ثم.. ثم انهزم السوفيت، وانسحب جيشهم، وفي غير مكث، ولا تنسيق، ولا مسؤولية: تخلت أمريكا عن مجاهدين حلفاء يعتقدون أنهم حققوا لأمريكا نصرا، لم تستطع أن تحققه على مدى نصف قرن من الحرب الباردة، وأصبح حال هؤلاء المعبئين بروح الجهاد، المدربين على السلاح على النحو التالي:

أ ـ زوال خصمهم الذي يوجهون إليه عداوتهم وبنادقهم، أي فقدان (الهدف).

ب ـ رحيل الخبراء الأمريكان الذين كانوا يديرون المعركة عن بعد (تجنبا للحساسيات المعروفة)، وهو رحيل أدى إلى فوضى عارمة أفضت إلى اقتتال بين المجاهدين (وهذا لا يعني إسقاط العوامل الذاتية).

ج ـ امتلاء النفوس بخيبة أمل مريرة للأسباب السابقة، ولأسباب أخرى محبطة أيضا: فقد وُعد المجاهدون الأفغان بإقامة دولة إسلامية لهم في أفغانستان، ووعد كثير منهم بالجنسية الأمريكية، وبالتعليم في أمريكا إلخ، ولكنها وعود لم تتحقق.. ولهذه الأسباب مجتمعة: انقلب المجاهدون على أمريكا وشنوا ضدها حرب إرهاب: بدأت ولم تنته.. إن أمريكا لعبت بالنار، فنزل الإرهابيون إلى الملعب ذاته ليحرقوا أمريكا بالنار ذاتها، ويسجلوا ضدها أهدافا (نارية)!

2ـ ومن فصول اللعب بالنار مع الإرهاب أو جماعات العنف المسلح: ما فعله الباكستانيون ـ عبر حكوماتهم المختلفة ـ، فهم مارسوا اللعب مع الإرهاب: استقلالا برأي وقرار، أو استجابة لنصيحة أمريكية.. فماذا كانت النتيجة؟.. ها هي باكستان تتلظى بنيران الإرهاب في عمق مدائنها، وفي مضارب قبائلها، وعلى حدودها: مما يهدد وحدتها السياسية والاجتماعية والجغرافية تهديدا جديا لا هزل فيه.

3ـ ومن هذه الفصول: ما يجري في اليمن الشقيق والجار اللصيق.. فقد كانت هناك علاقة دعم وتنسيق بين الإدارة اليمنية المركزية وبين الحوثيين ـ كلّ بحساباته ـ ومن خلال هذا التنسيق ظفر الحوثيون بدعم وغطاء كبيرين استطاعوا من خلالهما بناء قوة عسكرية وقتالية نشبت أظفارها اليوم في الدولة المركزية التي لا وجود لليمن الواحد المستقر بدونها.. وهذا نوع من اللعب بالنار يوشك أن يحرق اليمن كله ـ لا قدر الله ـ.

4ـ وإيران ليست بريئة من تهمة دعم الإرهاب ـ وفق قرائن عديدة ـ وها هي تتلظى بنيران الإرهاب في مخها وجهازها العصبي (الحرس الثوري).

هذه هي الأزمة الأولى الكبرى التي تضرب عالمنا: أزمة اللعب بالنار مع العنف والإرهاب: لعبا ارتد ـ بالحرائق ـ على الذين بدأوا اللعبة الحارقة الغبية، ولا سيما في عصر يستطيع الإرهابيون فيه أن يحصلوا على ذات التقنيات المتقدمة التي تملكها الدول، وفي عصر مملوء بعوامل السخط والتذمر التي توسع نطاق تجنيد الساخطين والمتذمرين في شبكات إرهاب عابرة للأقاليم والقارات.

أما الأزمة الكبرى الثانية فهي (اللعب بالديمقراطية).. وكثيرا ما تتبدى الروابط المأزومة بين هاتين الأزمتين.. مثلا: كثيرا ما تُقدم الديمقراطية كـ(حل) ناجع لموجات الإرهاب وظواهره، بل إن بعض الخبراء في الإرهاب (وما أكثرهم عددا وأقلهم خبرة ونفعا في أيامنا هذه)، ادعى بأن فقدان الديمقراطية هو أعظم أسباب وجود الإرهاب، وأنه متى وُجدت الديمقراطية: زال الإرهاب بالضرورة!

إنه من الاستخفاف بالديمقراطية، بل من احتقارها: أن تقدم وكأنها (دواء من كل داء). فهذا تقديم يدرجها في ( بند الدجل)، فمن خصائص الدجالين أنهم يصفون (حبة واحدة من نوع واحد) لعلاج كل داء: حبة تصلح لعلاج الشقيقة، والضيق في التنفس، وهشاشة العظام، والصرع، والعقم، والخلافات الزوجية، ووجود وظيفة، والحفظ من السحر والحسد والنحس في اتخاذ القرار السياسي إلخ.

قالوا: إن في باكستان إرهابا، وإن علاجه الناجع هو (الديمقراطية).. ولقد جرت الانتخابات الديمقراطية أكثر من مرة، ولكن الإرهاب ظل باقيا، بل ازداد رقعة ونوعا وحدة.. وقالوا: إنه لا علاج للإرهاب في أفغانستان إلا بالانتخابات الديمقراطية. ولقد جرت من قبل انتخابات نيابية ورئاسية: ارتفعت معدلات الإرهاب في ظلها على نحو غير مسبوق كما هو حاصل الآن، والمتوقع: أن الانتخابات الحالية لن تسفر عن نتيجة أفضل.. وقالوا: إن الديمقراطية هي البلسم الشافي لمشكلات العراق، ومن أخطرها مشكلة الإرهاب.. ولقد جرت انتخابات ديمقراطية في العراق، بينما الوضع على حاله: مشكلات متفاقمة، وإرهاب يتلوه إرهاب يعززه إرهاب، وصراعات إيدلوجية وسياسية حادة تغذي الإرهاب.

ما معنى هذا.. هل ندعو إلى (نبذ) الديمقراطية، وحمل الناس على التخلي عنها؟.. هذا ليس من شأننا، ولا من حقنا، ولكنا ننتقد هذا (الدجل السياسي) باسم الديمقراطية: الدجل الذي يجعل (حبة) الديمقراطية شفاء من كل داء وعلة!

ومما يندغم في هذا السياق ـ والموضوع ـ: جعل الديمقراطية مسوغا للشيء ونقيضه. إن ساسة الغرب يرتلون الديمقراطية وكأنها آية من الإنجيل، ويدعون إليها وكأنها رسالة الحق التي أنزلت على سيدنا عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ.. والسؤال الصادم هو: من الذي برع في صناعة الانقلابات العسكرية في العالم الثالث في الخمسين سنة الماضية؟.. ومن الذي حمى وساند وحرس أنظمة شاه إيران، وسوهارتوا إندونيسيا، وماركوس الفلبين، وبوكاسا أفريقيا الوسطى، وموبوتو زائير، وفان ثيو كوريا الجنوبية؟.. إنهم ساسة الغرب المراءون بالديمقراطية.

وهذا نزوع انتهازي فتح الباب لتسويغ الانقلابات بحب الديمقراطية والغيرة عليها.

فهناك انقلاب في منطقتنا العربية جعل (بناء ديمقراطية سليمة) أحد مبادئه الخمسة!!.. وحين قام برويز مشرف بانقلابه الثاني عام 2007 قال ـ بجرأة تامة ـ «إننا نستعيد ديمقراطية صحيحة من أجل الأمة والوطن»، ألم يعطل ابراهام لينكولن حقوقا معينة خلال الحرب الأهلية الأمريكية لحالة الطوارئ التي أعلنها؟

ما الحل؟.. لكي لا نقلد دجّالي (الحبة) التي تشفي من كل مرض، فإننا ندعو إلى (الاجتهاد السياسي والفكري): العلمي والجاد الذي يبتكر حلولا ناجعة: لا حلا واحدا.. يتلخص في (حبة واحدة).