ادّيني عمر وارميني في البحر

TT

ذكرت وكالات الأنباء أن عامل نظافة سقط هو وشقيقه من منصة تقع في الطابق 47 من إحدى ناطحات السحاب في نيويورك، وتوفي الشقيق، فيما أصيب هو برضوض وجروح وكسور ما زال يتعالج منها، وقد اعتُبر هذا معجزة، فمن النادر أن يسقط شخص من الطابق العاشر مثلا ولا يموت، فكيف بالطابق 47؟!

غير أن هناك معجزة أكبر من تلك بمراحل، ويبدو أن الذي كتب الله له الحياة ولم يأت أجله بعد، ستحفظه عنايته سبحانه.

وهذه المعجزة الأخيرة التي سوف أرويها لكم، حدثت في 1940 حينما كانت الحرب العالمية الثانية في أوجها، وهناك سرب من الطائرات البريطانية تشن غارة على المواقع الألمانية، وأصيبت إحدى الطائرات وكان بها سبعة أفراد، استطاع اثنان منهم أن يقفزا بالمظلات، وأربعة احترقوا قبل أن تسقط الطائرة، أما الأخير وهو المدفعي الذي يطلق القذائف واسمه (نيقولاس الكيميد) فقد أحس بالخطر وعندما حاول أن يلبس مظلته لم يستطع، حيث إن لهب النيران حال بينه وبينها، وكان بين أمرين أحلاهما (هلاك)، فإما أن يموت محترقاً ـ أو يموت ساقطاً من ارتفاع (5,500) متر، فاختار الهلاك الثاني ويقول: وفي غمرة اليأس وثبت فانقلبت في الهواء بظهري فاحتواني الليل البهيم. وكم كان جميلا أن يتخلص الإنسان من تلك الحرارة القاتلة، لقد كان البعد عنها رحمة واسعة، فبدأت أشعر بالهواء البارد يغمر وجهي وحمدت الله كثيرا، لم أكن أشعر بالسقوط بل كان يخيل لي أنني كنت أستريح فوق سحابة من هواء، كنت إذا نظرت إلى أسفل رأيت النجوم تحت قدميّ، وسألت نفسي: أينبغي للإنسان أن يسقط ورأسه صوب الأرض؟!، وإذا كان هذا هو الموت، فإنه شيء لا يخيف، وكل ما كان يؤسفني هو أنني سوف أذهب دون أن أودع أصحابي، ولن أشاهد حبيبتي (بيرل) التي وعدتها على اللقاء معها يوم الأحد الذي سوف أنال فيه إجازتي.

وفجأة غبت عن الوعي، غير أنني بدأت أسترجع حواسي استرجاعاً بطيئاً، وأخذت أدرك أن الأضواء والأنوار من فوقي، تحيط بها فتحة عجيبة أخذت شكل ثقب ظهرت فيه أغصان متشابكة كثيفة لأشجار، لقد كان البرد قارساً، وبدأت أشعر بالآلام المبرحة في ظهري، وأدركت تماماً أنني على الأرض وما زلت حياً، فتمتمت بيني وبين نفسي قائلا: شكراً لك يا إلهي. ويبدو أن الرياح المعاكسة من أسفل إلى أعلى قد خففت من اندفاعه، ثم تلقفته الأغصان وأبطأته، ثم هوى على كثيب هائل من الثلج الهش المتراكم، فامتص بقية الصدمة.

وصل له الجنود الألمان واعتقلوه، وتفاجأوا أنه لا يحمل أية مظلة، ولم يصدقوا أعينهم ولم يصدقوا كلامه، إلا بعد أن شاهدوا طائرته التي سقطت وفيها بقايا مظلته المحترقة.

عولج وشفي وظل معتقلا إلى أن أطلق سراحه عام 1945، والتقى بحبيبته (بيرل) وسقط في أحضانها مثلما سقط في الفضاء من ارتفاع (5,500) متر ـ أي أنه اقترن بها ـ، ولكن سقوط عن سقوط يفرق.