الانتخابات وحدها لا تعني الديموقراطية

TT

تطورات السياسة الداخلية في أفغانستان واجهت أنصار الديموقراطية وحكم القانون حول العالم بمعضلة عويصة هذا الأسبوع.

ليس هناك أدنى شك، مثلما علمنا التاريخ، في أن أوضاع الناس تتحسن في كنف النظام الديموقراطي وتتدهور في الأنظمة الشمولية الديكتاتورية. لكن تجربة الانتخابات الرئاسية في أفغانستان وضعتنا أمام إيجاد حل (وهو ليس بالأمر السهل) للمعادلة الصعبة: الديموقراطية ليست سلعة جاهزة يمكن تصديرها من المناطق المتوفرة فيها، كأوروبا مثلا، إلى مناطق لم تعرف الديموقراطية من قبل، ومن ثم لا يمكن استيراد تربة نبتة الديموقراطية معها؛ فهل يمكن العثور على نبتة ديموقراطية ملائمة للمناخ والتربة الأفغانيين؟

أم هل يمكن تهجين بذرة محلية مع بذرة ديموقراطية غربية بعلم الهندسة الوراثية لزرع نبتة ديموقراطية تقاوم ظروف المناخ القاسي؟.

تجربة تهجين الديموقراطية الأوروبية بالثقافة المحلية في مصر، نجحت في الدولة الحديثة التي أسسها محمد علي باشا في مطلع القرن الـ 19 وطورها أولاده إلى ملكية دستورية بنظام برلماني متعدد الأحزاب مستقر وفر الرخاء حتى اغتاله العسكر في انقلاب 1952. وأكد العسكر، حتى اليوم، مقولتنا بعجز الأنظمة الشمولية ـ باسم الأيدولوجية القومجية أو باسم الدين ـ عن التطور للديموقراطية أو حتى للعودة إلى استقرار ديموقراطي تواجد قبل ميلاد الشمولية.

وصعوبة تكرار تجربتي محمد علي باشا في مصر، وكمال أتاتورك في تركيا، اليوم في العالم الإسلامي بالتحديد، تثير جدلا واجه العالم بعد 11 سبتمبر 2001 بعد الإجماع على أن غياب الديموقراطية كان أحد أهم أسباب نمو الإرهاب عند غياب أدوات التمثيل الشعبي.

وكان لابد من التوجه لأفغانستان أثناء سيطرة نظام ديكتاتوري شمولي أصولي متخلف بزعامة الملا محمد عمر، موفرا ملجأ للقاعدة واستضاف معسكرات لتدريب إرهابيي العالم من مختلف الألسن والأجناس، لا يجمعهم سوى اتباع العنف وسيلة للحياة.

وكان من البديهي أن يتبع إسقاط الطالبان ـ على يد تحالف بلدان ديموقراطية ـ تأسيس نظام ديموقراطي عادل ممثل لكل طوائف الشعب الأفغاني، والطريقة المألوفة هي صناديق الاقتراع.

كان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش صادقا في محاولة نشر الديموقراطية الدستورية وحكم القانون حول العالم (بمنطلق مصلحة بلاده لو افترضنا سوء النية) وخطابه في وست بوينت في مايو 2002 ـ كان تعبيرا عن ذلك مستعيرا من مبادئ الرئيس ويدر ويلسون (1856 ـ 1924) الذي أكد على حقوق الشعوب في الديموقراطية عقب الحرب العالمية الأولى.

سخر بوش يومها من أصحاب مقولة صراع الحضارات الذين روجوا لفكرة أن أمما بأكملها تخضع لثقافات تحول دون استيعابها للديموقراطية.

وصف الرئيس بوش يومها هذه المقولة بأنها إهانة لمجموعات جغرافية أو عرقية أو دينية كالعرب أو المسلمين أو الأفارقة بادعاء أن ثقافتها لا تستوعب الديموقراطية، قائلا إن المسلم أو الأفريقي كفرد لابد وأن يحلم بالحرية والعيش في نظام ديموقراطي يمارس فيه عقيدته أو يعبر فيه عن رأيه أو يرتدي ما يعجبه وزوجته من الملبس في حرية دون ضغوط.

تطورات الأشهر الثلاثة الماضية، منذ إجراء الانتخابات الرئاسية في أفغانستان، حتى إعلان لجنة مراقبة الاقتراع بطلان النتيجة التي ادعى الرئيس حميد كرزاي أنه فاز بها، واجهت أصحاب الدعوة الويلسونية بالمعادلة الصعبة. فأكثر المراقبين ديموقراطية ودعوة للحرية هنا في بريطانيا مثلا، اضطروا للتساؤل عن العبرة من تضحيات الجنود البريطانيين؟

فـ 22 منهم لقي حتفه في عملية مخلب الفهد وهدفها الاستراتيجي كان تأمين مقاطعات هيلمند من الطالبان وحماية مراكز الاقتراع.

والنتيجة؟ انخفض مستوى الذين أدلوا بالأصوات ليصل أحيانا 11% فقط من عدد سكان الدائرة.

أما الإهانة الأكبر لذكرى هؤلاء الـ 22 الشجعان الذين قدموا حياتهم لمساعدة الناخب الأفغاني على الإدلاء بصوته، فهي اكتشاف عمليات التزوير على نطاق واسع، وحشو أنصار كرزاي الصناديق بقرابة مليون صوت مزور.

وربما نفهم مبررات إحجام 89% من الناخبين عن التصويت، كانخفاض مستوى التعليم بينهم، أو خشية وحشية وهمجية الطالبان، أو تآمر أئمة وملالي لا يتجاوز تفكيرهم العصور الوسطى، مع الطالبان خوفا أو جهلا في فتوى تكفير من يدلي بصوته؛ لكن ما هي مبررات كرزاي الذي تعلم في الغرب وشهد بعينيه كيف تمارس الأمم المتحضرة حياتها السياسية الديموقراطية، عندما رفض مقدما ما تأتي به الانتخابات من تبديل الحكومة عبر صناديق الاقتراع؟

أرسل أعوانه لتزوير الأصوات. وبالطبع لا يتاح لدي أدوات الحصول على أدلة مادية دامغة عن تورط كرزاي في عمليات التزوير وحشو الصناديق بأصوات مزيفة؛ لكن أتباعه قاموا بذلك، فإما أنه كان يعلم بنشاطهم كجزء من استراتيجيته؛ أو أنه غير قادر على إقناع أتباعه بالعمل في إطار القانون بدلا من انتهاكه، وبالتالي يفتقد صفات الزعامة. ولأن البعض سيعلق على مقالي في موقع «الشرق الأوسط» بازدواجية معايير الغرب مستشهدا بمقاطعة حماس بعد حصولها على أغلبية حفنة مقاعد في غزة، فالرد الواضح هو تشابه ما حدث في أفغانستان وغزة، بأن هناك فارقا شاسعا بين الانتخابات، كإحدى مفصليات العملية الديموقراطية، وبين الديموقراطية نفسها ككائن حي ينمو ويتطور باستمرار ويحتوي المجتمع كله داخل هذا الجسم، ويغير الجلد (كما تفعل بعض الكائنات) كلما ضاق عن استيعاب النمو الموسمي للكائن الديموقراطي.

فلا جبال ووديان أفغانستان، ولا حواري وأزقة ومقاهي غزة، وقت التصويت في كليهما، استوعبت نمو هذا الكائن الذي لا وجود له أصلا في المكانين، وأقصد الديموقراطية، بأعضائها من سلطة رابعة حرة، وقدرة الإنسان على التفكير كفرد لا تابع، وأمامه حرية الحصول على المعلومة لتقدم للناخب الخيارات وما يعنيه نجاح حزب معين أو من يتولى الحكم من عواقب أو عقوبات اقتصادية.

وعندما تغيب حرية الفرد وحقه أو حقها في اختيار أبسط المتطلبات كالزي والمأكل أو قراءة كتاب أو الاستمتاع بالموسيقى أو تعليم بناته عن غزة وأفغانستان وسيف «التكفير» مسلط فوق الرؤوس ومطرقة «الشريعة»، بتفسير من عينوا أنفسهم أولياء على حياة الناس، ستهوي في أي وقت على من يمارس حقه أو حقها كفرد في الاختيار؛ فلا تكون للانتخابات في هذه الحالة أي علاقة بالديموقراطية.

المشكلة التي تواجه العالم اليوم أنه لا يمكن ترك أفغانستان فريسة للطالبان حتى لا تتحول لمنصة انطلاق القاعدة للإرهاب، بينما يضغط الرأي العام في بلدان التحالف ـ وأهمها بريطانيا وأميركا ـ على الحكومات بسحب القوات، وهو أمر قد تضطر الحكومات إليه إذا أصبح وجود القوات في أفغانستان عنصرا حاسما في الانتخابات.

وربما يكون العودة لنظام اللويا جيرغا (مؤتمر عام لزعماء القبائل) هو الحل المقبول لنظام قبلي يضيق جلده على نمو الديموقراطية بشكلها الحديث، وهذا حديث آخر.