وَسْم

TT

بداية موسم الأمطار بحساب «البدو» الرحّل في الجزيرة العربية، منتصف شهر أكتوبر، غيوم وتباشير للمطر، غسيل وجه الأرض، وعبق فوّاح يتطاير في الأنوف مع أول زخة مطر تتساقط على الرمال العطشى، تشعر بأن الأرض طال انتظارها لهذا الغائب الذي سقط بكل ثقله على وجهها لثما وتقبيلا. عبير لا تضاهيه عطور باريس ولا بخور كمبوديا، ثمة سر كبير في تميّز هذه الرائحة التي تنتشر من الأرض بعد أن ترتشف أول رشفة من ماء المطر: إنه سر الحياة! فبالمطر، تبتل الأرض، ويتلاشى الغبار، وترتوي السهول والبراري، وتبدأ حياة فطرية وأزهار وروائح نبات الأرض التي لا تخطئها الروح قبل أن يشتمها الأنف: «وجعلنا من الماء كل شيء حي».

تتكاثر طيور تغني بسعادة، طيور تحتفي بالحياة، وتستمر في تغريدها غناء مدركة أن حياة الجفاف في الصحراء العربية قادمة لا محالة. تسابق الطيور الزمن، فتغني قدر استطاعتها، قبل انحباس المطر، وتلاشي الحياة.

يشعر الواحد بدخول «الوسم» بدخول فرص الحياة، رابط يربط العربي في هذه المنطقة من عالمنا العربي ربطا روحيا وثيقا بين موسم المطر والتفاؤل. يتضاءل التشاؤم في هذا الموسم، ويتراجع الإحباط في النفس، حتى ولو لم يساعد المشهد العربي والإسلامي في ذلك. من أقصى دول عالمنا الإسلامي وحتى أدناها: حروب وتفجيرات ومذابح، من باكستان شرقا وحتى الصحراء الغربية، مرورا بفلسطين التي طال احتباس المطر فيها.

تدير تحكم التلفزيون ليخرج على شاشته «فتحاوي» يلوم حماس لإجهاضها جهود القاهرة في المصالحة الفلسطينية. تشيح بوجهك عن الشاشة أثناء تغيير المحطة إلى إخبارية أخرى، وإذ بأحد قادة حماس يلعلع زجرا ونهيا وتوبيخا بفتح التي استسلمت وتخلت عن المقاومة، تشعر بالغثيان والإحباط. تنظر إلى السماء فتراها ملبّدة بالغيوم، تتذكر الطفل الفلسطيني وحقه في الحياة، ويشخص الإنسان الفلسطيني أمامك بآدميته، فتجدد القسم بينك وبين نفسك بألا تدع اليأس يحكم حالتك، قناعتك لم تكن يوما بفتح ولا بحماس، كانت ولا تزال قناعة حق، والحق شمولي لا يعرف الفصائل ولا يأبه بالتفصيلات.

يبقيك المنظر ويحاول جرجرتك للإحباط والتشاؤم، فمن عراق لم يتفق فرقاؤه على انتخاباتهم بعد فرصة استمرت ست سنين، إلى حرب حوثية في اليمن وعد الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بإنهائها قريبا قبل أسابيع، إلى سودان يتحدث فرقاؤه عن إمكانية انفصال الجنوب بعد حرب ضروس استمرت ثلاثة عقود فقط لا غير من أجل وحدة أراضيه.

لكن كلمة الوسم ومشتقاتها جميلة، تثير فيك الأمل، وتزرع في الروح بهجة انتظار الحياة. معاني هذه الكلمة مرتبطة بالبشرى وبالتجديد، فوسم الأرض تعني أول أمطارها، ووسام الشرف لا يناله إلا من أبدع في عمله، أو هكذا يفترض، لأن من الواجب استثناء أوسمة ونياشين يعلقها بعض العسكر دون مبرر.

والموسم عند أهل الشام ومصر يعني فصل البيع والشراء ونزول الحرير للأسواق، وهو وقت الوفرة والخير والتجارة.

ومن الوسم جاءت الوسامة، فالرجل وسيم ويقال للمرأة وسيمة أيضا، والوسمية بلهجة أهل الخليج هي أول غيوم الوسم المطيرة، وهو اسم مؤنث شائع بين البدو: كان اسم أمي ـ رحمها الله ـ وسمية.

سألت إحدى طالباتي بالجامعة ذات يوم عن معنى اسمها فلم تعرفه. حزنت، ليس لجهلها بمعنى اسمها، لكن لجهلها بمدلولاته ذات الصلة بالحياة وتجديدها وتجدّدها، شعرت بأنها لا تعرف معنى الأمل الذي يرتبط بمعنى هذا الاسم. واضح ذاك التشابه الكبير بين اسمها وبين كلمة «اسم»، فوسم الجمال يعني إعطاءها إشارة تميزها وتَسِمها.

في الوسم، نشتم رائحة المطر، ونتطلع لسحب المُزْن، ونعاهد الحياة على الحياة!