تأمل تسعد

TT

لم أشعر بثورة غيرة من النوع الملتهب في حياتي أبدا. وقد يكون هذا الواقع مرتبطا بموقعي في الأسرة. فقد كنت الابنة الوسطي. أي أن أخوين وأختا سبقوني إلى العالم، ومرت سنوات عشر قبل أن تفاجأ أمي بحمل جديد. ولم تكن تلك هي المفاجأة الأخيرة، فقد ولد أخي الأصغر بعد سبع سنوات من وصولي.

من المتعارف عليه أن طفل الوسط يتعلم مبكرا كيف يتكيف مع الظروف المحيطة به. وقد كنت كذلك، لا أغضب ولا أغار من أختي الكبرى، لأنها تتمتع بمزايا عينية وسلطة تخول لها أن تأمر وأن تنهى وأن تعتبرني امتدادا لإرادتها تحركها كيف ومتى شاءت. وكنت أعتبر تفوقها الحياتي واقعا، وتفوقها الدراسي خاصية يتمتع بها الكبار، وعليّ أن اصبر إلى أن أكبر فأصير متفوقة كما كانت. والغريب هو أنني لم أتفوق دراسيا إلا بعد التحاقي بالجامعة فعلا.

يقال إنه إذا عرف السبب بطل العجب. وأسباب ذلك الواقع الذي عشت ترتبط ارتباطا وثيقا بالأدوات، التي ولدت كل منا بها. فقد ولدت أختي مزودة بذكاء علمي فوق العادة. وولدت أنا مزودة بموروث جيني دفع بي نحو الفن والأدب مثلي كمثل والدي، الذي كان شاعرا وأديبا، وجدي لأمي الذي ترجم عدة روايات لوليام شكسبير، ما زلت احتفظ منها برواية: كما تهواه. ولم يفطن احد إلى ذلك الفرق بين الشقيقتين، إلى أن أعلنت العصيان على الدراسة في القسم العلمي، وتمسكت بحقي في اختيار دراسة الأدب، في وجه عاصفة من الاستنكار والوعيد بأنني سوف أضيع مستقبلي بيدي.

في حياتنا كأفراد مواقف واختيارات تدفعنا دفعا للتساؤل ما إذا كنا مسيرين أم مخيرين. والمعنى واضح ومنه أن الأدوات الجينية تدفعنا في اتجاهات معينة، والظروف الاجتماعية قد تدفعنا في مسارات أخرى. لكن هناك لحظات حسم من اختيارنا. وتلك اللحظات هي التي تحدد لون وطعم الحياة فيما بعدها. وهنا مربط الفرس، لأن كلا منا في النهاية مسؤول عن اختياره.

اليوم قرأت بحثا يقول بأن 7% من الناس يعانون من خلل عصبي متفاوت الدرجات، يؤدي إلى ارتعاش الأطراف وارتعاش الصوت في مواقف معينة. وأن آخر الأبحاث تؤكد أن الإصابة يسببها موروث جيني لم يفطن إلى وجوده العلم من قبل. ومعنى ذلك أن هذا النوع من الخلل وراثي، لكنه عنصر وراثي قد يصيب طفلا وينجو منه أشقاؤه وشقيقاته. فهو إذن موروث قدري. والانكى من ذلك أن الأبحاث أثبتت وجود ذلك الموروث الجيني بنسب أكبر في ألمانيا والنمسا والولايات المتحدة. واكتشفوا انه يرتبط ببروتين معين يوجد في المخ وفي النخاع الشوكي عند المصاب، ويؤثر على وظائف الجهاز العصبي. والعمل جار على تطوير الدواء اللازم لتصحيح الخلل وتمكين المصاب من الشفاء.

لكن تصحيح هذا الخلل أو ذاك لن يبدل وضع الإنسان داخل المنظومة الكونية. رحلته في الحياة تختلف عن رحلة أي مخلوق آخر، ولا يميزه عن سائر المخلوقات سوى قدرته على الاختيار. ومعنى ذلك أن الحياة رحلة تعلم واكتشاف، والامتحان هو لحظات الحسم واختيار هذا المسار أو ذاك، الملائكة لا تتمتع بهذا الامتياز.

تأمّل إذن فيما أوتيت وارض به ووظفه لإسعاد نفسك وإسعاد غيرك، وكن موقناً بأن من خلقك لا يريد بك سوءاً وإنما يريد بك رشداً.