خطر الانسياق

TT

في الوقت الذي تتنفس فيه معظم دول العالم الصعداء للخطوات الإيجابية التي تحققت حتى اليوم بين إيران والدول الغربية، والتي تعدُ بانفراج هام على المستوى الإقليمي والدولي، تنفرد إسرائيل وحكامها ومحللوها وكتّابها بالتعبير عن الاكتئاب من هذا الاتفاق والقلق من طلب رقابة دولية على المنشآت النووية الإسرائيلية.

ومن المفيد التذكير هنا أن إسرائيل لا تحترم توقيعها على الاتفاقات الدولية كما حدث عند التوقيع على اتفاق أوسلو أو مع أي طرف عربي آخر، ولذلك يتحدث الإسرائيليون اليوم عن أن توقيع اتفاق فيينا مع إيران لا يساوي قيمة الحبر الذي يكتب به، أو قيمة الورقة التي يكتب عليها. وهو موقف عنصري، وتعبير عن الإيمان بتفوق عرقي لأحد الموقعين، وانتقاص من قيمة وكرامة وصدقية الموقعين الآخرين.

كانت إسرائيل المحرّك الأساسي خلال السنوات الأخيرة في بثّ الشكوك حول مشاريع إيران النووية، كما كانت هي وراء دق طبول الحرب على العراق ولبنان وغزة، والترويج للضربة العسكرية على إيران، متّبعة الاستراتيجية ذاتها التي اتبعتها قبل الحرب على العراق، حيث كانت المحرّض الأساسي وراء قرار الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية خوض هذه الحرب التي لم يستطع أحد أن يقتنع بالأسباب الحقيقية لها، ما دام الادعاء بوجود «القاعدة» وأسلحة الدمار الشامل، قد تبين أنه ادعاء كاذب.

النشاط الإعلامي الإسرائيلي الهادف إلى فرض عقوبات شديدة على إيران نسخةٌ عن نشاطهم الإعلامي والسياسي والدبلوماسي والمخابراتي قبل الحرب على العراق، ولذلك أصيبوا اليوم بالاكتئاب، لأن التصرف الإيراني اختلف جذرياً عن التصرف العراقي، كما أن تصرف الرئيس أوباما اختلف جذرياً عن تصرّف الرئيس بوش، إذ إنّ أوباما يفكّر بمصلحة أميركا أولا، وليس بمصلحة إسرائيل أولا كما فعل بوش، الذي ورّط بلده بحروب خاسرة. وها هو المراسل العسكري لجريدة «هاآرتس» الإسرائيلية عاموس هارئيل يعترف بأن الولايات المتحدة تربح إنجازاً من الاتفاق مع إيران، بينما يضع هذا الاتفاق إسرائيل في مشكلة: «هل عليها التصرف كلاعب في الفريق والمشاركة في التفاؤل العام، أم مواصلة بث الريبة والتهديدات. وسيكون من الصعب على تل أبيب أن تبدّد خط التشدد والشك بالأمل الظاهر». إذن بث الريبة والتهديدات وخط التشدد والشك بإيران، هو خط استراتيجي إسرائيلي أولا وقبل كل شيء، وخطورة الاتفاق بالنسبة لإسرائيل هو أنه أوضح، ربما للمرة الأولى، تمايزاً حقيقياً بين الموقف الأميركي والإسرائيلي، مع أن تصريحات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ما زالت تهدف إلى طمس هذا التمايز وإطلاق تصريحات خارجة عن سياق التفاوض وجو التفاؤل والأمل.

الآلة الإعلامية الإسرائيلية، التي هي أشبه بفرانكشتاين، المخلوق الذي خرج عن السيطرة وأثار الرعب في عالمه، تخلق واقعاً من نسج المخططات العدوانية ضد شعوب المنطقة، بغض النظر عن الجرائم والمآسي التي تسببها للبشرية، منطلقة من نظرة استعمارية استيطانية للمنطقة وعنصرية تجاه شعوبها. ولو خصص الباحثون وقتاً فقط لإدراج التصريحات الإسرائيلية العنصرية ضد العرب، لفوجئوا بحجم وأبعاد ومغازي هذه التصريحات التي تعبّر عن أحقاد دفينة، وآخر هذه التصريحات أتى على لسان دان شفيطان المحاضر في جامعة تل أبيب في دورة خاصة أمام «طلاب» هم عبارة عن كبار المسؤولين في الأجهزة الأمنية والسياسية، حيث قال: «إن العرب هم الفشل الأكبر في تاريخ الجنس البشري. ولا يوجد شيء مختل أكثر من الفلسطينيين والعالم العربي. الفشل الأعمق ومن لا يقول ذلك يكون قد خضع للياقة السياسية البائسة» (21 / 10 / 2009).

أما عن الحرب العراقية ـ الإيرانية، يقول شفيطان بأنها كانت «سبع سنوات من المتعة»!!

ولكي لا يقال إن ما أوردته عن الدور الإسرائيلي في العراق، هو من باب التحليل أو الاستنتاج الشخصي، أحيل القارئ إلى المحاضرة التي ألقاها آفي ريختر، وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في 4 أيلول 2008، حيث قال: «ليس بوسع أحد أن ينكر أننا حققنا الكثير من الأهداف على هذه الساحة (العراق) بل وأكثر مما خططنا له وأعددنا في هذا الخصوص. يجب استحضار ما كنا نريد أن نفعله وننجزه في العراق منذ بداية تدخلنا في الوضع العراقي منذ بداية عقد السبعينات من القرن العشرين... هدفنا الاستراتيجي ما زال عدم السماح لهذا البلد أن يعود إلى ممارسة دور عربي وإقليمي، لأننا أول المتضررين، نعمل على إيجاد ضمانة لبقاء العراق خارج دائرة الدول العربية... نحن نتفاوض مع الأميركان من أجل قطع الطريق أمام عودة العراق ليكون دولة مواجهة مع إسرائيل. الإدارة الأميركية حريصة على ضمان مصالحنا وعلى توفير هذه الضمانات عبر وسائل مختلفة... المعادلة الحاكمة في حركتنا الاستراتيجية في البيئة العراقية تنطلق من مزيد من تقويض حزمة القدرات العربية في دولها الرئيسية من أجل تحقيق المزيد من الأمن القومي الإسرائيلي».

ويضيف قائلا: «إن العراق تلاشى كقوة عسكرية وكبلد متحد، وخيارنا الاستراتيجي بقاؤه مجزّأًً، كما أن تحييد العراق عن طريق تكريس أوضاعه الحالية يشكل أهمية استراتيجية للأمن الصهيوني».

هل عملت إدارة بوش إذن والدول التي أرسلت جنودها إلى العراق وسببت كوارث إنسانية واجتماعية وتاريخية للشعب العراقي على خدمة المنظور الصهيوني فقط من حيث تدري أو لا تدري؟! وهل ما زالت معظم هذه الدول التي اعترضت على تقرير غولدستون تدعم قتل الفلسطينيين وضربهم بالقنابل الفوسفورية وهدم مدارسهم ومشافيهم؟ بأي حق تعارض الولايات المتحدة وهولندا وسلوفاكيا وهنغاريا وأوكرانيا وإيطاليا، تقريراً يهدف إلى معاقبة مجرمين ارتكبوا جرائم حرب معلنة ضد الإنسانية في غزة، في الوقت الذي يتشدقون فيه بحقوق الإنسان، والتي برهنوا أنها لا تعنيهم في شيء، إلا إذا كانوا يشاطرون شفيطان نظرته العنصرية. وبأي حق تتحفظ البوسنة وسلوفينيا وبوركينا فاسو وأوروغواي والكاميرون واليابان والغابون والمكسيك والنرويج وبلجيكا وكوريا الجنوبية على قرار يدين قتل الأطفال والمدنيين ومصادرة الأراضي وهدم المنازل والمدارس والمشافي؟!

إذن على أحرار العالم أن يضعوا الدول التي عارضت التقرير أو تحفظت عليه أو تغيّبت عن التصويت على قائمة سوداء لأنها، دول، مهما ادّعت من مبررات، تؤيد ارتكاب إسرائيل كل هذه الجرائم ضد المدنيين العرب، وتقدم بمواقفها هذه دعماً سياسياً ودبلوماسياً لمرتكبي هذه الجرائم، وبهذا تتحمل المسؤولية عن استمرار حكام إسرائيل بارتكاب هذه الجرائم.

إن معظم الدول التي اعترضت على تقرير القاضي غولدستون لم تقرأه، وانحازت بشكل مقزّز لصالح مرتكبي جرائم ضد الإنسانية، فهل يعلم من اعترض على التقرير أنه يوصّف جرائم مثل تدمير المطاحن، والمداجن، وتدمير المزارع، وقتل الحيوانات بهدف تجويع المدنيين، وكذلك تدمير محطة الصرف الصحي في غزة لتلويث المزارع القريبة؟ هل تقبل الدول المتحضّرة الديمقراطية بهذه الجرائم، فقط لأن مرتكبيها إسرائيليون؟! أم لأن الضحايا من العرب؟! وهل يمكن للولايات المتحدة أن تحثّ إسرائيل على وقف الاستيطان، بينما تجري مناورات عسكرية معها تهدف إلى تعزيز قدراتها العدوانية ضد جيرانها وتعزيز قدراتها لاحتلال أراضيهم ومصادرتها واستيطانها؟ وهل يجوز لأمين عام للأمم المتحدة أن يحتج على أي تصرف دفاعي عن النفس يقوم به لبنان، بينما يعبّر عن «قلقه» لثمانية عشر ألف انتهاك جوي وبرّي وبحري إسرائيلي للأراضي اللبنانية؟ لقد جاوز الظالمون المدى، ولم يعد أحد جاهلا بحقيقة الأجندة الإسرائيلية، ومسؤولية المروجين لها، والدائرين في فلكها، أو الملتزمين الصمت حيالها.

إن التمايز الذي بدت بوادره في المثال الإيراني بين موقف إسرائيل ومواقف الدول الغربية، أصبح ضرورة حتمية للأمن الإقليمي والدولي، لأن العنصرية الإسرائيلية التي تستهدف العرب والمسلمين علناً اليوم، ستمدّ أذرعها بعد غد، ولا يتذرّع أحد بعد اليوم بعقدة الذنب من اليهود، فقد كسر القاضي اليهودي غولدستون هذه العقدة بوقفته الأخلاقية المشرّفة ضد مرتكبي جرائم الحرب من الإسرائيليين.

من هذا المنظور سوف يذكر التاريخ موقف أردوغان في دافوس، وموقف تركيا الجريء ضد الحرب على غزة، وموقفها في إلغاء المناورات مع إسرائيل، وسعيها لإنهاء الحصار على غزة، بأنه موقف نبيل، سيمهّد الطريق لدول أخرى تحترم حقوق الإنسان بالفعل لا بالقول، أن تحذو حذوها.

لم تعد الأجندة الإسرائيلية خطراً على الفلسطينيين والعرب فحسب، بل على أسس العدالة وحقوق الإنسان، وعلى الغرب أن يواجه هذا التحدي ويعترف بالواقع أو يقف في صفوف العنصريين والمجرمين، كما فعل عند التصويت على تقرير غولدستون، ويتوقف عن الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، لأنهم فقدوا مصداقيتهم.

لم يعد خطر الانسياق وراء الصهيونية خطراً على العرب وحدهم، بل أصبح خطراً على العدالة الدولية وقدسية حقوق الإنسان وكرامته.