هل يكتشف اللبنانيون قريباً أنهم لا يستحقون بلدهم؟

TT

«إن مجتمعاً يبادل بعض حريته بشيء من الأمن سيفقد الاثنين ولا يستحق أياً منهما»

(توماس جيفرسون)

بين الاتصالات الإقليمية والمساعي الحميدة الرابطة بين الداخل والخارج تستمر أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية.

في كل دول العالم لا أسهل من تشكيل الحكومة.

ففي الديمقراطيات يعتمد الأمر على نتيجة الانتخابات النيابية. ذلك أن الإصغاء إلى صوت الشعب «ملزم» في الأنظمة التي تأتي من الشعب وعن طريق الشعب وتعمل من أجل الشعب. وبناء عليه، تقوم الحكومة بناء على برنامج عمل الحزب الفائز أو الجبهة التحالفية الفائزة.. وتكون مسؤولة أمام الناخبين عن تنفيذ هذا البرنامج الذي انتخبت على أساسه.

أما في الأنظمة التسلطية ـ أو الديكتاتوريات، مجازاً ـ فهي تؤلف بقرار سريع من نوع «كن فيكون». لأن الزعيم المفدى لكذا مليون مصفّق و«هتّاف»، أو القائد المناضل ـ سواءً كان مؤسساً لنظامه أو وارثاً له ـ أكبر من الشعب، وصوته دائماً فوق صوت الشعب، وهو أدرى من أي مواطن بمصالحه ولو كان هذا المواطن حاملا عشر درجات دكتوراه.

وتبقى حالة ثالثة يزعم اللبنانيون أنها تنطبق على نظامهم، أطلقوا عليها بخطاب «ببغائي» مسمى «الديمقراطية التوافقية». هذا النوع يستند إلى بنية نظام هشة، وإلى هوية وطنية مشتتة، وسيادة متناهشة ومنقوصة. ولقد دأب بعض أصحاب المصالح المحليين والإقليميين على المبالغة في التركيز على «التوافق» من منطلق تعطيل آلية الحكم وإفراغ المؤسسات الدستورية من دورها من خلفية مواصلة تغييب «اتفاقات الوفاق الوطني» في الطائف. والمشكلة أن هذا «البعض»، المستقوي بقوة السلاح، يدرك جيداً أن هذه الاتفاقات هي الضامن المؤسّساتي الحقيقي الوحيد لمفهومي «التوافق» و«التعددية» لشمولها على بندي اللامركزية الإدارية الموسّعة ومجلس شيوخ يضمن حقوق الطوائف.

بكلام آخر، ثمة جهات في لبنان والمنطقة، تريد شل الحياة السياسية بحجة «التوافق» وبقوة الابتزاز الأمني.. بينما هي تدمّر ـ عمداً ـ الآلية الوحيدة الكفيلة ببناء «التوافق» على أطر مؤسساتية دستورية.

وهذا بكل بساطة، تفسير سبب تأخر تشكيل الحكومة في بلد خرج قبل أربعة أشهر من انتخابات بأكثرية واضحة وأقلية واضحة.. قبل أن يلغي مفاعيلها احتكار فئة من اللبنانيين السلاح دون باقي الفئات.

اليوم، في ضوء التعقيدات الإقليمية المتزايدة تسعى الدوائر، الحريصة على «حلحلة» ما يمكن «حلحلته» من العقد، إلى الترويج لقواسم مشتركة بين اللبنانيين أنفسهم.. وبين ولبنان ومحيطه. وفي هذا السياق، جاءت عملية إذابة الجليد السعودية ـ السورية، وشهدنا التفاهم السوري ـ التركي، والتحرّكات الموسمية المتكرّرة من فرنسا. وكل هذا في سباق محموم مع عوامل التفجير التي تغذّيها طغمة إسرائيلية تدميرية التوجّه، وسلطة إيرانية دينية أمنية تؤمن بأن «خير وسائل الدفاع.. الهجوم»، وفي الخلفية تقف إدارة أميركية تحاصرها «المؤامرات» داخل الولايات المتحدة فتجبرها على تلّمس طريقها في خضم الأزمات الدولية بحذر وتردّد.. وبروح اعتذارية لا تخلو أحياناً من سذاجة.

هل يمكن فصل ما يحدث في لبنان اليوم عما يحدث في العراق وفلسطين واليمن؟ هل يمكن فصله عن مناورات «عض الأصابع» بين المجتمع الدولي وأصحاب المشروع النووي الإيراني؟ واستطراداً عن «الحوار»، المباشر وغير المباشر، بالوساطة وبتلاقي المصالح الإقليمية العليا، بين تل أبيب وطهران؟

إن مَن يتابع وسائل الإعلام اللبنانية يتصوّر خطأ أن النائب ميشال عون هو «قطب» الأزمة ومحور الرحى. ويتوهم أن الحل الناجع يعتمد على إرضائه. ولكن بصرف النظر عما إذا كان عون يدرك الحقيقة أم لا، أو تسمح له شخصيته بالاعتراف بها ولو بينه وبين نفسه، فهو ليس إلا بيدقاً يجري تحريكه باتجاه واحد، أو وقفه حيث هو، تبعاً لمصالح اللاعبين الفعليين الذين أهدوه كتلة برلمانية تضم ـ على ذمته ـ 27 نائباً.

النواب الـ27 الذين يساوم عون بأصواتهم البرلمانية.. يستخدمهم أيضاً لعرض عضلاته في الشارع المسيحي بغية تهميش البطريرك الماروني ورئيس الجمهورية، مع أن بعضهم من غير المسيحيين، وأن غالبيتهم انتخبت بأصوات غير المسيحيين.

واليوم عندما يفاوض عون، أو بالأصح عندما يقول إنه يفاوض، فإنه يفعل ذلك بحجة «استعادة صلاحيات المسيحيين الذين همّشهم الاحتلال السوري»، وطبعاً حسب رأي «العونيين».. بتواطؤ إسلامي. غير أن المفارقة التي يرفض «العونيون» ومَن يفتشون لهم عن الأعذار الإقرار بها.. هي أن القوة التي يستند إليها عون «لاستعادة صلاحيات المسيحيين» قوة مسلمة، بل هي الحليف الأبرز لمَن كان يصفه بـ«الاحتلال» السوري.

والجانب الأخطر في ما فعله عون منذ توقيعه «وثيقة التفاهم» مع «حزب الله»، ويواصل فعله حتى اللحظة، بذريعة إعلاء شأن المسيحيين.. هو أنه يساعد «الحزب» على التحقيق التدريجي لهدفه الاستراتيجي البعيد المدى، ابتداء من نسف «اتفاقات الطائف» والاستعاضة عنها بـ«اتفاق الدوحة».. توصلا لإحكام السيطرة أمنياً وديموغرافياً وسياسياً على لبنان.

في المقابل، الخطأ الذي ارتكبه «الحزب» ويواصل ارتكابه ـ مع أنه من واقع قوته العسكرية قد لا يعتبره خطأ ـ هو مواصلته الرهان على الدور التعطيلي لعون.. كما لو كان هذا الدور غائباً عن أذهان المكوّنات السياسية والطائفية الأخرى في لبنان.

فالخطاب الطائفي العوني صريح جداً. و«حزب الله» الذي يقال إنه على طريق بناء الثقة مع السّنة والدروز، المستهدفة قياداتهم ومصالحهم بخطابيات عون و«أدبياته»، لن يستطيع طمأنة السّنة والدروز إلى نياته تجاههم.. بينما يواصل استثمار الظاهرة العونية لتهييج الشارع المسيحي وتجييرها لإنهاك بنية الدولة.

«حزب الله» لا يخوض في «بازار» الحقائب الوزارية لأنه فعلياً أكبر من الحكومة. غير أن «الحزب» سيوفّر على اللبنانيين الكثير من المحن إذا أفهم «حليفه» ضرورة أن يتواضع قليلا فيتصرّف وفق حجمه الحقيقي، لأن الضمانة الوحيد البعيدة الأمد لـ«الحزب» تبقى كنف الوطن..

الوطن نفسه الذي يبدو «الحزب» أكبر منه اليوم.